مقال أكاديمي محكم
تنفرد ظاهرة الصراع الدولی عن غیرها من ظواهر العلاقات الدولیة بأنها ظاهرة متناهیة التعقید والتشابک حیث تختلط فیها التناقضات بعضها ببعض ویعود ذلک إلى تعدد أبعادها وتداخل مسبباتها ومصادرها وتشابک تفاعلاتها وتأثیراتها المباشرة وغیر المباشرة وتفاوت المستویات التی تحدث عندها تلک التفاعلات وذلک من حیث المدى أو الکثافة. إن الصراع فی حقیقته هو عملیة تنازع للإرادات المتناقضة، کما انه التنازع الناتج عن الاختلافات فی دوافع الدول وفی تصوراتها وأهدافها وتطلعاتها وفی مواردها وإمکانیاتها وهو ما یؤدی بالنتیجة إلى اتخاذ قرارات أو انتهاج سیاسات خارجیة تختلف أکثر مما تتفق وتتعارض أکثر مما تتقارب وعلى الرغم من تنوع مظاهر وأشکال الصراعات الدولیة منها والإقلیمیة بید إنها تعمد إلى استخدام أدوات الصراع المختلفة التی تندرج من أکثرها فاعلیة إلى أکثرها سلبیة وبالشکل الذی یخدم تلک الدول فی تحقیق سیاساتها وإستراتیجیتها(1). ویعد الصراع الذی کان قائماً بین الولایات المتحدة الأمریکیة والاتحاد السوفیتی السابق نموذجا واضحا للصراع الوجودی والجوهری الذی امتد لیشمل جمیع مجالات الحیاة المختلفة والذی کان یقوم على مبدأ توازن القوى الدولی فکل من هاتین الدولتین کانتا ترغبان فی تحقیق التفوق النووی المطلق وفی تحقیق الهیمنة على العالم وان تحاول أن تکون کل دولة منهما هی الأقوى عسکریا والأغنى اقتصادیا وان تکون هی دون الأخرى الأکثر حضورا وتأثیرا سیاسیاً ودبلوماسیا(2)، بید إن نهایة الحرب الباردة وما تمخض عنها من تفکک الاتحاد السوفیتی السابق وانهیاره بشکل رسمی قد أدى إلى نهایة عهد توازن القوى الدولی السابق لیحل محله نظام الأحادیة القطبیة التی تربعت على قمتها الولایات المتحدة الأمریکیة. ومع ذلک، من المفید الإشارة إلى إن توازن القوى الدولی أرید به على مر الزمن ضمان استقراریة الخصائص البنیویة للنظام السیاسی الدولی وذلک من خلال الحیلولة دون تطلع إحدى القوى المؤثرة فی الساحة الدولیة إلى زیادة قوتها بنسب أعلى من قوة غیرها من الدول وبالاتجاه الذی یتیح لها السیطرة على النظام السیاسی الدولی القائم وتحویله بعد ذلک إلى نظام آخر ومن اجل دیمومة هذه السیاسة فهی تفترض أن تتصرف القوى المؤثرة حیال بعضها فی ضوء مجموعة قواعد محددة وان کانت هذه القواعد لا ترتقی إلى سمة القانون العام الذی یحدد أنماط السلوک السیاسی الدولی ومع ذلک یمکن فهم التوازن الدولی بمعنى تلک الحالة التی تتمیز بالتوزیع المتوازن أو شبه المتوازن للقوة والتأثیر بین القوى الأساسیة داخل النظام السیاسی الدولی(3). واتساقا مع ما تقدم، یمکن القول بان الصراع الروسی الأمریکی فی المرحلة الراهنة یعد واحداً من أهم المواضیع التی تندرج فی میدان العلاقات السیاسیة الدولیة لاسیما وان العالم بدأ یمر بمرحلة مهمة من التغیرات الجوهریة فی بیئة النظام السیاسی الدولی خلال العقد الأول من الألفیة الثالثة إذ ما تزال الولایات المتحدة متربعة على قمة الهرم السیاسی الدولی وتشکل عنصرا مهما وأساسیا فی إدارة الصراع الدولی إذ إن نهایة الحرب الباردة قد أدت إلى بروز دولة عظمى واحدة تحاول بسط هیمنتها ونفوذها على العالم کما إنها تحاول بسط نفوذها وسیطرتها على منطقة لم تکن ضمن مناطق نفوذها السابقة ومصالحها القومیة المباشرة وهی منطقة القوقاز التی کانت تابعة للاتحاد السوفیتی وفی مواجهة کل هذا کان هنالک تطور أساسی فی البیئة السیاسیة الدولیة ویعد من أهم التطورات التی یشهدها التاریخ السیاسی للبشریة والمتمثل ببروز قوة عالمیة هائلة موازنة للدور الأمریکی وهی روسیا الاتحادیة وریثة القوة السوفیتیة السابقة. لقد نجحت روسیا فی اجتیاز المرحلة الانتقالیة التی تلت عهد الاتحاد السوفیتی ، وما رافقها من صعوبات تنمویة وأمنیة ورغبتها فی الاضطلاع من جدید بدور أوسع فی السیاسة الدولیة وقیامها بتصحیح الخلل الذی کان قائما فی سیاستها الخارجیة حیث رکزت روسیا جهودها خلال السنوات الأخیرة لتحقیق هدف محدد یتمثل فی استعادة إرادتها فی الشؤون الدولیة. ویعتقد العدید من الخبراء والمختصین بالشأن الروسی بان معدلات النمو الاقتصادی العالیة التی تنعم بها البلاد فی ظل سیاسات الاقتصاد الکلی ستمکن روسیا من تبؤ المرتبة السادسة بین کبرى اقتصادیات العالم وان تکون بحلول عام 2020م بین الاقتصادیات الخمس الکبرى فی العالم، کما إن سعی الرئیس الروسی فلادیمیر بوتین ومن بعده دیمتری میدفیدیف لتحدیث القوة العسکریة الروسیة وتزویدها بأحدث الأسلحة والتقنیات العسکریة المتقدمة سیمکنها من استعادة تفوقها العسکری وهیبتها على الساحة الدولیة. إن العالم قد اقترب فعلا من المواجهة الفاصلة التی ستقرر نتیجتها المرحلة الانتقالیة التی بدأت ملامحها بالظهور ولیس معنى المواجهة الفاصلة إن القوى الصاعدة والمناهضة للهیمنة الأمریکیة تسیر على نهج تصعید خلافاتها مع الولایات المتحدة الأمریکیة إلى حد الصدام العسکری أو مادون ذلک بقلیل بقدر ما یعنی إن هذه القوى سترکز جهودها خلال السنوات المقبلة على تعزیز مواقع صعودها فی الهرم السیاسی الدولی وتحقیق أسباب نهضتها وتفوقها بتدرج وبتراکم ولکن بصلابة وستحاول قدر المستطاع رفع التکلفة التی تتحملها الولایات المتحدة الأمریکیة للمحافظة على دورها المهیمن على الشؤون الدولیة وهو ما بدأت هذه القوى بالسعی لتحقیقه بالفعل (4). وتبعاً لما تقدم، یمکن القول بأن العالم قد بدا یمر بمرحلة تحول وانتقال فی بیئة النظام السیاسی الدولی من نظام أحادی القطبیة یحمل ملامح إمبراطوریة ویتعامل ببعض سلوکیاتها وأدواتها وطموحاتها إلى نظام آخر لا یستطیع احد فی الوقت الراهن المراهنة على قسماته وخصائصه والأنماط المحتملة لتفاعلاته وإمکاناته. ینصرف مضمون هذه الدراسة إلى البحث فی أهم المتغیرات السیاسیة للصراع الروسی الأمریکی على منطقة القوقاز وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن تساؤل رئیسی یتمثل فی هل إن الصراع الروسی الأمریکی على منطقة القوقاز سیؤدی إلى عملیة تغییر فی موازین القوى الدولیة الراهنة ؟ وینطلق من ذلک التساؤل الأساسی مجموعة من الأسئلة الفرعیة التی تحاول هذه الدراسة الإجابة علیها وتتمثل فی: ما هی أهمیة منطقة القوقاز بالنسبة للطرفین الروسی والأمریکی ؟ وما هی أسباب الحرب فی القوقاز ونتائجها ؟ وما هی مسارات الصراع الروسی الأمریکی فی المرحلة الراهنة ؟ وما هی تحولات میزان القوى الدولی المرتقبة ؟. وتقوم هذه الدراسة على فرضیة علمیة مؤداها إن الصراع الروسی الأمریکی على منطقة القوقاز سیؤدی إلى عملیة تغییر فی موازین القوى الدولیة القائمة وتبعا لذلک فانه کلما تزاید الدور الروسی فی منطقة القوقاز کلما تقلص الدور والنفوذ الأمریکی فی تلک المنطقة، والعکس صحیح أیضا فکلما تقلص الدور الروسی فی منطقة القوقاز کلما تزاید الدور والنفوذ الأمریکی فی تلک المنطقة. وقد اعتمدت الدراسة على المنهج التحلیلی والمنهج الاستقرائی بغرض التوصل إلى نتائج علمیة موضوعیة دقیقة تخدم هذا البحث. لا شک فی إن روسیا أخذت تصبح قوة مهمة تدفع باتجاه التغییر السیاسی فی العالم وعادت طرفا له وزنه فی السیاسات الدولیة لتزعم الموقف الدولی الرافض للتفرد الأمریکی بالقیادة الدولیة ویمکن القول بان الکیفیة التی سوف یوظف بها کل طرف عناصر قوته بالشکل الذی یجعلها قوى قادرة على ممارسة دور فاعل وأساسی فی مجمل السیاسات الدولیة هو الذی سیحکم فی المرحلة المقبلة کیفیة ونوعیة التغییر فی میزان القوى الدولی. إن الصراع الروسی الأمریکی على منطقة القوقاز سیفرز نتائج جدیدة ومهمة تعود بمجملها على تغییر میزان القوى الدولی الراهن وبالشکل الذی یؤدی إلى نهایة عهد القطب الواحد المنفرد بالسلطة والهیمنة إلى صالح نظام آخر بدأت ملامحه بالظهور فی منطقة أصبحت تحظى بأهمیة خاصة فی العالم ألا وهی منطقة القوقاز.
الكلمات المفتاحية: الصراع الروسي الأمريكي، منطقة القوقاز، خلق توازن جديد، القوى الدوليةابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ
ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.
اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.