منذ استقلال السودان عام 1956م، عانى البلد من سلسلة متواصلة من النزاعات الداخلية والانقلابات العسكرية، مما أدى إلى حالة مزمنة من انعدام الأمن والاستقرار السياسي. وعلى الرغم من امتلاك السودان موارد طبيعية هائلة وإمكانيات اقتصادية واعدة، إلا أن هذه الأزمات دفعته نحو دوامة من الفقر والمجاعات وكذا التراجع الاقتصادي والعمراني. فعلى مر العقود، شهد السودان العديد من المحاولات الإصلاحية والاتفاقيات الهادفة إلى تحقيق الاستقرار، ويُعد اتفاق جوبا لسلام السودان من أبرز تلك الجهود؛ فقد جاء هذا الاتفاق بعد سنوات طويلة من الصراعات المسلحة التي استنزفت البلاد على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
اتفاق جوبا لسلام السودان هو اتفاق وقع من طرف الحكومة الانتقالية في السودان وممثلون عن عدد من الجماعات المسلحة في 3 أكتوبر 2020م، بمدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، وقد تناول هذا الاتفاق قضايا قومية تخص السودان ككل، واتفاقيات تخص أقاليم بعينها. حيث كان من أهم أهدافه وقف الاضطرابات في الولايات المتأثرة بالنزاعات، بما في ذلك دارفور، جنوب كردفان، والنيل الأزرق. وتميز هذا الاتفاق بوجود أطراف مؤيدة وأطراف معارضة.
أ- حركات الكفاح المسلح – مسار دارفور: هو ائتلاف من الحركات المسلحة الرئيسية في إقليم دارفور. تضم بشكل رئيسي حركة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان (مني مناوي)، وحركة تحرير السودان - المجلس الانتقالي، وحركة التحالف السوداني، وتجمع قوى تحرير السودان، وحركة تحرير السودان.
ب- الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال / الجبهة الثورية: مرتبطة بالحركة الشعبية لتحرير السودان وظلت ناشطة في السودان بعد انفصال جنوب السودان في عام 2011م. في عام 2017م، انقسمت الحركة إلى فصيلين رئيسيين: فصيل مالك عقار الذي وقع اتفاق جوبا وفصيل عبد العزيز الحلو الذي لم يوقع على الاتفاق بعد. يتواجد كلا الفصيلين في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ت- حكومة السودان الانتقالية: تشكلت بموجب الوثيقة الدستورية لعام 2019م وتضم عناصر من قوى الحرية والتغيير ومن القوات المسلحة السودانية.
ث- مسار الشرق: يتزعمها أسامة سعيد، رئيس مؤتمر البجا، وهو جماعة سياسية تتألف من مجموعات عرقية عدة. وقد انشقت المجموعة، مما ساهم في عدم وجود توافق داخل مسار الشرق على اتفاق جوبا. وقع أسامة سعيد على اتفاق مسار شرق السودان نيابة عن مجموعتين منشقتين عن مؤتمر البجا (الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة وحزب مؤتمر البجا المعارض).
ج- مسار الوسط: هو ائتلاف بين أحزاب سياسية وجماعات صوفية. يقوده حزب الجبهة الثورية الديمقراطية. ويتركز وجوده في ولاية الجزيرة، والنيل الأبيض، وسنار، وولاية الخرطوم.
ح- مسار الشمال: يتألف من حركة تحرير كوش وكيان الشمال. من أهداف المسار: التنمية، والنازحين في شمال السودان.
خ- الجبهة الثالثة – تمازج: جناح من حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان.
أ- الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال (بقيادة عبد العزيز آدم الحلو): و التي وافقت على الانضمام إلى المفاوضات في جوبا لكنها أصرت على أن يكون لها مسار سلام منفصل وعلى توقيع اتفاق خاص بها. كما أصرت على إقامة دولة علمانية كشرط مسبق للسلام، مما سبب توقف المفاوضات. والحقيقة أن هذه الحركة وقعت اتفاقاً قصيراً جداً مع رئيس الوزراء في أديس أبابا في 3 سبتمبر 2020م، لكن وضعه القانوني غير واضح.
بعد التوقيع على اتفاق جوبا، تم إطلاق المسار الثاني بين أعضاء الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال وممثلي الحكومة الانتقالية ولكن حتى تاريخ ديسمبر 2020م لم تنجح هذه العملية في بناء توافق في الآراء بين الطرفين.
ب- حركة تحرير السودان (بقيادة عبد الواحد محمد نور): والتي صرحت بأنها لا تعترف بشرعية الحكومة الانتقالية لاحتوائها على عسكريين، وبالتالي فهي لم تشارك في المفاوضات على الإطلاق. وبعد دخول اتفاق جوبا حيز التنفيذ، أعلن ممثلو حركة تحرير السودان استعدادهم للتفاوض على اتفاق سلام مع السلطات الانتقالية في السودان.
وتتمثل أهم بنود اتفاق جوبا فيما يلي:
- إعلان "وقف دائم لإطلاق النار" بعد 72 ساعة من التوقيع.
- منح منصب نائب الرئيس للمتمردين بعد إقصائهم منه في يوليو 2013م.
- تشكيل لجنة للمصالحة، وكذا محكمة لـجرائم الحرب بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي.
- مغادرة جميع القوات الأجنبية المشاركة في الحرب، ومنها القوات الأوغندية الداعمة لــــ"سلفاكير".
- منح القوات العسكرية مهلة 30 يوما للرجوع مع أسلحتها إلى الثكنات.
- إخلاء العاصمة جوبا من قوات الطرفين (الحكومة والمتمردين).
- وضع آلية مراقبة وتقييم تنفيذ الاتفاق.
- تشاور الرئيس "سلفاكير" مع نائبه الأول، واتخاذ قرارات جماعية.
– تعيين نائبي رئيس تكون صلاحياتهما متساوية، ويحدد رئيس الدولة مهامهما وواجباتهما.
يتألف اتفاق جوبا من 10 أبواب متمايزة؛ الباب الأول هو اتفاق على القضايا القومية، وهناك ستة أبواب تمثل الاتفاقات الثنائية بين حكومة السودان ومختلف الجماعات المسلحة. وهذه الأبواب الستة تغطي مجموعة واسعة من القضايا، مثل تقاسم السلطة وتقاسم الإيرادات، والعدالة الانتقالية، والترتيبات الأمنية الانتقالية. يتضمن الاتفاق أيضاً مصفوفة تنفيذ تحدد المواعيد النهائية لتنفيذ عدد كبير جداً من القضايا.
الباب الأول بعنوان "اتفاق القضايا القومية"، ويتناول تقاسم السلطة، وإدارة العاصمة القومية، واللجان الوطنية، المؤتمر الدستوري، مؤتمر نظام الحكم، إصلاح القضاء، الانتخابات، وقضايا أخرى) البيئة، والمسيحيون وأعضاء الديانات الأخرى، والتشريعات المناهضة للعنصرية، وغيرها).
الباب الثاني "اتفاق سلام مسار دارفور" (اتفاق دارفور أينما ورد لاحقاً)، ويشمل شمال دارفور، جنوب دارفور، غرب دارفور، شرق دارفور، وسط دارفور، ويركز على تقاسم السلطة، تقاسم الإيرادات، وقف إطلاق النار الدائم، الترتيبات الأمنية الانتقالية، العدالة الانتقالية، التعويضات، إلخ.
الباب الثالث "اتفاق سلام مسار المنطقتين" (اتفاق النيل الأزرق وكردفان أينما ورد لاحقاً)، ويشمل النيل الأزرق، جنوب كردفان، غرب كردفان. يركز على توزيع المسؤوليات، الموارد المالية، إصلاح الخدمة المدنية، إعادة الإعمار والتنمية، البيئة، إلخ.
الباب الرابع "اتفاق سلام مسار الشرق"، ويشمل المنطقة الشرقية (البحر الأحمر، ولايتا القضارف وكسلا). يركز على مبادئ عامة، الحقوق الأساسية والعدالة الانتقالية، تقاسم السلطة، القضايا الاجتماعية والصحية والاقتصادية.
الباب الخامس "اتفاق سلام مسار الشمال"، ويشمل المنطقة الشمالية (ولاية الشمالية وولاية نهر النيل). ويركز على مبادئ عامة، نظام الحكم، المناطق المتنازع عليها، القضايا الثقافية والاقتصادية والصحية.
الباب السادس "اتفاق سلام مسار الوسط"، يشمل المنطقة الوسطى (ولايات الخرطوم، والجزيرة، والنيل الأبيض، وسنار). ويركز على القضايا الزراعية والاقتصادية والصندوق القومي للتنمية.
الباب السابع "اتفاق الترتيبات الأمنية بين حكومة السودان الانتقالية والجبهة الثالثة- تمازج( الاتفاق الأمني مع الجبهة الثالثة)"، يشمل جميع مناطق تواجد تمازج في السودان. ويتضمن على وقف إطلاق النار الدائم، القيادة والسيطرة، إعادة الدمج، إصلاح الشرطة، أجهزة الأمن، و نزع السلاح.
الباب الثامن "الأحكام الختامية"، ويركز على حالة الأطراف والحكومات؛ الطبيعة الإلزامية للاتفاق؛ حالة الأطراف الجديدة؛ حل النزاعات.
إن التنفيذ الناجح للاتفاقية يواجه تهديدات عديدة نتيجة هشاشة الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وانعدام الأمن على نطاق واسع، وكذا نقص الموارد اللازمة للتنفيذ، وغيرها من التحديات التي سنذكرها الآن.
1- انعدام الثقة بين الأطراف الموقعة للاتفاق: تظل هناك شكوك متبادلة بين الحكومة و الحركات المسلحة، وذلك ما يعطل مسار الإصلاحات ويجعل تحقيق الاستقرار أكثر صعوبة في المنطقة.
2- القوى المعارضة للاتفاق: يواجه الاتفاق تحدي رفض التوقيع عليه من بعض جماعات التمرد حتى الآن، مثلما وضحنا في الشكل رقم (02) أعلاه. وهذا ما يُبقي بؤر التوتر قائمة.
3- مشكلة التمويل: على الرغم من الدعم الدولي لعملية سلام السودان والمتمثل في تأييد العديد من المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ومجموعة الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج)، لاتفاقية جوبا، فإن تحقيق السلام والاستقرار المستدام لا يزال صعب المنال. إذ يتطلب دعم الاتفاقية بالكامل، قيام الشركاء الدوليين ببذل المزيد من الجهد والمال. أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها السودان هو دفع تكاليف تنفيذ اتفاق السلام. ولا يزال الاقتصاد الوطني يعاني من تشوهات هيكلية، وبينما تعهد المانحون بدفع تكاليف الاتفاقية، فلن يكون هذا كافيًا إذا كان الاقتصاد أضعف من أن يخلق وظائف جديدة ويحسن مستويات المعيشة. يحتاج السودان إلى استثمارات محلية وأجنبية واسعة النطاق، فضلًا عن القدرة على الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وهو أمرٌ تم تجاوزه حاليًا بعد رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية.
4- نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج: والذي يمثل تحديًا جوهريًا ضمن الترتيبات الأمنية لاتفاق سلام جوبا، حيث تعد من الجوانب الأكثر تعقيدًا وصعوبة في التنفيذ. ويتطلب النجاح في هذا المجال تجاوز المقاربات التقليدية السائدة عبر تشخيص دقيق لبيئة ما بعد الصراع في السودان، إلى جانب تبني نهج تنفيذي مرن واستباقي يتضمن آليات فعالة للرصد والتقييم.
على مدى العقدين الماضيين، تراكمت خبرات متنوعة من خلال الدراسات الأكاديمية والتقارير المؤسسية التي سلطت الضوء على الدروس المستفادة وأفضل الممارسات في عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وفي هذا السياق، لعب البنك الدولي دورًا بارزًا في توثيق ومتابعة عمليات ناجحة، لا سيما في إفريقيا وأمريكا الوسطى. كما أنشأت إدارة عمليات حفظ السلام بالأمم المتحدة في أواخر التسعينيات وحدة متخصصة لتطوير أفضل الممارسات، بالتعاون مع معاهد التدريب والبحث، مما أفضى إلى إعداد كتيبات شاملة حول هذا الموضوع.
علاوة على ذلك، اعتمد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإدارة عمليات حفظ السلام مجموعة من المبادئ التوجيهية والمعايير المتكاملة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، بهدف تعزيز التنسيق والاتساق بين وكالات الأمم المتحدة. ورغم الإقرار بأهمية السياقات المحلية في الكتابات المبكرة، إلا أن التنفيذ العملي لهذه البرامج اتسم باتباع نهج تقليدي قائم على تطبيق ممارسات موحدة على مختلف الحالات، دون مراعاة كافية لخصوصية كل سياق محلي.
يُظهِر الواقع السوداني تحديًا رئيسيًا يتمثل في ميل الجماعات المسلحة الموقِّعة على اتفاقيات السلام إلى تضخيم أعداد أفرادها، مع العمل على تجنيد المزيد من العناصر ضمن صفوفها. ويُعزى هذا السلوك إلى ثلاثة أهداف رئيسية: أولًا، السعي للحصول على نصيب أكبر من المناصب داخل الأجهزة الأمنية، باعتبار ذلك استحقاقًا ناشئًا عن اتفاقيات السلام، لا سيما في ظل الهيمنة التقليدية للنخب المنحدرة من مناطق الشمال والوسط على هذه الأجهزة.
ونتيجة لذلك، قد ينشأ عدد من المخاطر من عمليات التسريح والإدماج. من حيث الكلفة المالية، إذا تضخّمت الأجهزة الأمنية بعد استيعاب المزيد من المقاتلين السابقين، فإن الخزانة الوطنية لن تستطيع مواجهة ضغوط الإنفاق على الخدمات العامة الأخرى. وربما يُساهم عدم تقديم هذه الخدمات في إثارة حالة من الاضطراب العام، وهو الأمر الذي يعرض الانتقال الديمقراطي للخطر. بالإضافة إلى ذلك، كلما أصبحت الأجهزة الأمنية أكبر عددًا وأكثر قوة، كان من الصعب على الحكومة المدنية إجراء إصلاحات في القطاع الأمني بشكل يكبح جماح مصالح أفرادها التجارية. كما أن من أبرز المخاطر الكبرى المرتبطة بتزايد حجم الجماعات المسلحة وعسكرة المجتمعات المحلية والمدن الكبرى، أنه في حالة تأخر أو فشل برامج التسريح، فقد يفقد قادة التمرد السابقون سيطرتهم على قواتهم المتضخمة من حيث العدد والعتاد، وهو ما يشكل تهديدًا محتملًا في المستقبل إذا انهار الاتفاق.
يمثل اتفاق جوبا لسلام السودان خطوة تاريخية نحو تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في بلد أنهكته النزاعات على مدى عقود. ورغم ما يحتويه الاتفاق من بنود طموحة تهدف إلى معالجة القضايا الجذرية للصراعات، إلا أن نجاحه يعتمد على التنفيذ الفعلي والإرادة السياسية لجميع الأطراف.
السودان.. تنوع عرقي وغنى تاريخي ومؤهلات اقتصادية تدمرها الحروب، موقع شبكة الجزيرة الاعلامية، الساعة 08:56، 26/6/2024م
زيد العلي، اتفاق جوبا لسلام السودان "ملخص وتحليل"، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، ط 7، 2021م
اتفاق جوبا للسلام في السُّودان :تحدياته وفرص نجاحه، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، وحدة الدراسات السياسية، تقدير موقف، 10/09/2020م
السلام في السودان: توقيع اتفاق لتقاسم السلطة بين الحكومة وجماعات مسلحة متمردة، موقع عربي نيوز بي بي سي، 3 أكتوبر 2020م
اتفاق السلام بدولة جنوب السودان، موقع شبكة الجزيرة الاعلامية، 30/8/2015م
محمود اكوت، جنوب السودان وتحديات تنفيذ اتفاق السلام!، موقع شبكة الجزيرة الاعلامية، 7/11/2024م
أ.د. حمدي عبد الرحمان، التحديات الأربعة: ما الذي يعوق اتفاق جوبا للسلام في السودان؟، 03/06/2021م، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ
ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.
اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.