يشهد العالم اليوم ثورة صناعية جديدة تعتمد بشكل كبير على التقنيات التكنولوجية وتطوراتها، وقد كان التحول الرقمي الذي ساد مؤخرا في معظم الدول من أهم الاستراتيجيات التي ساهمت في ذلك، بل أصبح من الأهداف التي تسعى الدول إلى الوصول إليها وتطويرها وتحقيقها في كافة الأمور، فقد أصبح كل من التحول الرقمي وممارسة الإدارة الإلكترونية مؤخراً من التوجهات العالمية، والتي يجب على المجتمع الدولي مواكبتها لضمان التقدم والسرعة في انجاز المهام وتحقيق الأهداف، وذلك من خلال تقليل التكلفة وتوفير الوقت والجهد اللازم لإنجاز المهام وتحقيق الكفاءة والفاعلية المطلوبة، خاصة بعد أن أصبح التحول الرقمي ضروري لإنجاز العديد من الخدمات والأعمال والمهام التي كانت تتطلب الكثير من الوقت والجهد.
تتعدد التعريفات التي تناولت مفهوم التحول الرقمي، حيث تعرفه دراسة (2019, al et Muehlburger) بأنه " القيام بتغييرات جذريه وجوهرية داخل سلسلة خلق القيمة للشركة أو هيكلها الداخلي والتي تكون إما سبب أو شرط مسبق لاستخدام التكنولوجيا"، بينما قامت دراسة (2019,Vial) بتعريفه بأنه "عملية تهدف إلى تحسين الكيانات والمؤسسات من خلال إطلاق تغييرات كبيرة على خصائصها، من خلال استخدام مجموعة من تقنيات المعلومات والحوسبة والاتصالات". ووفقاً لما سبق ترى دراسة (2018, al et Mergel) أنه يوجد هناك مستخدمون داخليون وخارجيون للخدمات الرقمية لهم دور كبير في جهود التحول الرقمي من خلال أربعة جوانب:
* القدرات الديناميكية كشرط مسبق للتحول الرقمي.
* مشاركة المستخدمين في تصميم الخدمات الرقمية.
* الإنتاج والابداع المشترك لزيادة شرعية الخدمات الرقمية.
* الانشاء المشترك مع السجلات المفتوحة لتحسين تقديم الخدمات الرقمية.
ومن الواضح أنه يتم استخدام هذا المصطلح بشكل كبير في القطاعات العامة للإشارة إلى المبادرات البسيطة كالخدمات على الانترنت وما شابه ذلك، حيث إنه لا يوجد إجماع على تعريف واحد محدد لمصطلح التحول الرقمي، وذلك لأن العديد من الباحثين يعدونها عملية تطورية للحكومة الإلكترونية، بينما يعتبرها البعض الآخر نقلة جذرية ونوعية لكافة الأعمال الحكومية، ولكن الشيء الوحيد الذي تم الاتفاق عليه هو أن هذا التحول يتم باستخدام التقنيات الرقمية لإحدى تغييرات في العمليات الإدارية الحكومية والتجارية.
قامت دراسة (Davison & Tarafdar 2018) بدراسة العديد من الأدبيات السابقة لمعرفة وفهم مراحل تطور التحول الرقمي للشركات والمؤسسات العامة، وقد وصلت تلك الدراسة إلى تحديد ثلاثة مراحل لتطور التحول الرقمي، وهي:
- المرحلة الأولى: الرقمنة (النمذجة)
وتشير المرحلة الأولى إلى تحويل المعلومات النظرية وتشفيرها إلى تنسيق رقمي أي تحويلها إلى أنماط (الصفر والواحد) من خلال معالج الجهاز، وهي أنماط يمكن لأجهزة الحاسب الآلي فهمها ومعالجتها وبالتالي تخزين ونقل المعلومات، أي وضع نسخة رقمية للمهام النظرية، وذلك لدمج تكنولوجيا المعلومات مع المهام الحالية وعلى نطاق واسع، وذلك باعتباره تطوير وتمكين لتكوينات الموارد الفعالة من حيث التكلفة وذلك باستخدام تكنولوجيا المعلومات، وبالتالي تعرف الرقمنة بأنها تحويل المعلومات التمثيلية إلى معلومات رقمية، وبالتالي فإنها لا تغير في شكلها او أنشطتها وإنما تضع نسخة رقمية لها يمكن للأجهزة قراءتها.
- المرحلة الثانية: رقمنة مرئية (التمثيل المرئي)
وتذهب المرحلة الثانية للتحول الرقمي إلى مرحلة الرقمنة المرئية أو التمثيل المرئي، والتي تتخذ فيها الرقمنة صورة مادية يمكن رؤيتها على ارض الواقع وهي تيسير المعاملات عن طريق استخدام تكنولوجيا المعلومات، كالدفع ببطاقات الائتمان أو إجراء المصالح الحكومية عن طريق المنصات الحكومية الموجودة عبر الانترنت، أي تحول العديد من المعاملات التي كانت تتم بالطرق التقليدية كالإجراءات الورقية وغيرها إلى صورة تكنولوجية حديثة، حيث يشير التمثيل المرئي إلى "كيفية استخدام تكنولوجيا المعلومات أو التقنيات الرقمية" أو هو "عملية الاستفادة من التقنيات الرقمية"، كقنوات الاتصال الجديدة عبر الإنترنت أو الهاتف المحمول أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي قامت بتغيير ملحوظ في العمليات التجارية الحالية ومكنت جميع العملاء من الاتصال بسهولة مع الشركات وقامت بتغيير التفاعلات التقليدية بين الشركات والعملاء. والفرق بين المرحلة الأولى والثانية هو أن الأولى يمكن اعتبارها رقمنة داخلية، تحدث داخل أجهزة الحاسب الآلي ومعالجته للمعلومات وتحويلها إلى أرقام يمكنه قراءتها لتكوين الصورة التي نراها على شاشات الأجهزة، بينما تعد الثانية هي استخدامنا او استفادتنا من هذه الرقمنة أو هذه التقنيات الحديثة، وبالتالي لا يمكن للمرحلة الثانية الحدوث دون الأولى.
- المرحلة الثالثة: التحول الرقمي
المرحلة الثالثة وهي المرحلة الأهم والأكثر انتشاراً والتي تشير إلى النتيجة أو التأثير الناجم عن المرحلتين السابقتين، أي النتيجة التي نحصل عليها بعد استخدامنا لتلك التقنيات، وهي المحدد لمستوى التغيير للشركة أو المؤسسة وهي التي تحدد مدى التطور اللازم لنماذج الأعمال الجديدة، والتي قد تكون جديدة أو تمثل تحدي كبير للشركات الرائدة أو القديمة التي يتوجب عليها مواكبة التغيرات، حيث تتنافس الشركات فيما بينها لتحقيق ميزة تنافسية من خلال نماذج أعمالها والنتيجة التي يجب الوصول إليها، من خلال الكيفية التي يتم من خلالها انشاء المؤسسة وتقديم قيمة للعملاء، وتحويل المدفوعات التي يتم الحصول عليها إلى أرباح، ويؤثر التحول الرقمي على الشركة بأكملها وطرق ممارستها للأعمال. فبالنسبة للشركات القديمة قد يعيد ترتيب العمليات لتغيير منطق عمل الشركة أو عملية خلق القيمة.
تقوم ممارسات التحول الرقمي في الأساس على تغيير وتيسير طريقة تقديم الخدمات بما يتناسب ويواكب التطورات التكنولوجية السريعة، وهو ما يفرض على الهيئات تطوير منظومات العمل الديناميكية بما يمكّنها من التطوير المستمر ويكسبها المرونة لمواكبة التغيرات أو الطبيعة المتغيرة لدى المجتمعات، وأسواق العمل، كأفكار وسلوك واهتمامات الافراد وقطاعات العمل بكل أشكالها، وقد أصبح ذلك ممكن بشكل كبير بعد الانتشار الواسع للهواتف الذكية والأجهزة المتنقلة، بل أصبح من الممكن تقديم الخدمات الرقمية بشكل مستمر على مدار اليوم دون التأثر بمكان المتعامل، ولكن من جانب آخر أصبح يمثل تحديات إجرائية معقدة لضمان التحول الآمن في التعاملات الرقمية. وقد حققت الحكومات تطورا كبيرا في العقد الأخير فيما يخص المبادرات الحكومية الرقمية، حيث طورت الحكومات في السنوات الأخيرة الاستراتيجيات الخاصة بتنفيذ مشاريع الحكومة الرقمية ومواجهة العقبات التي تقف أمامها، وكان من أهم تلك الاستراتيجيات هو الاتجاه نحو التحول الرقمي في كافة المؤسسات الحكومية، والتي تحدث من خلال الانتقال من الأنظمة الإدارية التقليدية إلى اعتماد أنظمة رقمية حديثة وذكية، تستطيع من خلالها أن تقدم الخدمات بشكل أيسر وأسهل بما يتناسب مع الاحتياجات المتغيرة والمختلفة لمواطنيها ومجتمعاتها.
ومن أهم الأهداف التي تهدف إليها الحكومات من خلال الاستراتيجيات التي تتضمنها مشاريع التحول الرقمي:
* تطوير الأداء الحكومي من خلال تعزيز القدرات المؤسسية لجعلها أكثر انفتاحاً وتشاركية وابتكاراً.
* تبسيط الإجراءات والعمليات، وتقليل التكاليف، ورفع الكفاءة والفاعلية.
* توفير المعلومات والخدمات للمستفيدين عبر قنوات مختلفة، وتطوير القدرات لإدراك التغييرات في احتياجات، وتفضيلات، ورغبات المواطنين والمجتمع.
* تمكين وتحفيز الموظفين لأداء أعمالهم ومهامهم بالشكل الأمثل.
* تعزيز أجندات الحوكمة العامة والمسائلة في الحكومة.
* دعم الشمول الاجتماعي وبناء الشراكات.
* إدارة المخاطر ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بما فيها الأمن السيبراني.
* تطوير ثقافة قائمة على البيانات.
تمثل أبعاد استراتيجيات التحول الرقمي الأداة التي تمكن التحول الرقمي من بناء القدرات وإنشاء قيمة للخدمات والشركات، ويوجد ثلاثة أبعاد رئيسية لإستراتيجيات التحول الرقمي، وهي:
- البعد الأول: البيئة
يتضمن هذا البعد الظروف السياسة والثقافية والاجتماعية المحيطة بتنفيذ برامج التحول الرقمي، وذلك من حيث زيادة معدلات استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من قبل الشركات والأفراد والهيئات الحكومية، لتعزيز التعاون وتبادل المعرفة داخل الحكومة، كما يجب على الحكومات تنظيم حملات توعية تقضي بزياد المعرفة والاعتماد على التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، كما يجب أن تتمتع الجهة التي تملك استراتيجية تحول رقمي بالسلطة اللازمة التي تمكنها من تحقيق التغيرات المطلوبة واللازمة لتحقيق أهدافها، كما يتضمن هذا البعد إعداد القوانين اللازمة والشاملة واللوائح التنظيمية التي تسمح للحكومة بالاستفادة من الإمكانات الكاملة واللازمة للميكنة والتحول الرقمي ، وتوفير الخدمات عبر الانترنت وضمان الخصوصية والامن السيبراني بكافة ابعاده، وذلك لزيادة وتعزيز الموثوقية والتواجد والمشاركة والتفاعل بين الحكومة والشركات والأنشطة الفردية عبر الشركات الرقمية بكافة أشكالها، وتقليل أو منع الحواجز التي قد تقف أمام الحكومة الرقمية وأنشطة التجارة الإلكترونية، وعدم تعارضها مع القوانين واللوائح القديمة.
- البعد الثاني: الاستعداد
ويتضمن هذا البعد تقييم الإمكانات الحكومية في تقديم الخدمات للمستفيدين وفق المعايير والمؤشرات العالمية، والاستفادة من إمكانات التكنولوجية في رفع الكفاءة الداخلية، ومواجهة ومعالجة نقاط الضعف لدى المؤسسات، ولذلك يتطلب هذا البعد مرونة في الثقافة التنظيمية لدى الحكومات والمؤسسات، وفي مدى تعقد المسائل المختصة بالبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث تتطلب إدارة التحول الرقمي وجود الاستعداد التكنولوجي وبناء عوامل التمكين الرئيسية لنشر الخدمات والتي تشمل المكونات التي يتم توفيرها مركزياً، ولا مركزياً. وتتمثل تلك الإمكانات اللازمة للاستعداد للتحول الرقمي، في أنشطة توحيد المعايير لتحسين الجودة، زيادة القدرة على التنبؤ، جذب وتطوير الأفراد والموهوبين، تطوير البنية التحتية والتطبيقات المعيارية ووجود حياة مشتركة مرنة وآمنة، التأسيس لمبادئ الحوكمة ونماذج التفاعل وتطبيقها وذلك لدعم وتطوير الاستراتيجيات التنفيذية للمشاريع.
- البعد الثالث: الاستخدام
ويشير هذا البعد إلى الخدمات التي تتعلق بشكل مباشر بالمستفيد أو المواطن، ومدى توفير هذه الخدمات عبر قنوات وصول متعددة، حيث يشمل بُعد البيئة والاستعداد المتطلبات ذات الفاعلية الكبيرة عبر المؤسسات الحكومية، بينما يتعلق بُعد الاستخدام بالتعامل المباشر مع المتطلبات الخاصة بالخدمة في جميع الكيانات الحكومية، ويحدد بُعد الاستخدام المتطلبات والاحتياجات التي تتعلق بكل من بُعدي البيئة والاستعداد، حيث يحدد نماذج التفاعل التي تركز على المستفيد النهائي والقنوات التي تقوم بتقديم تلك الخدمات وتنفيذها من خلال الجهات الحكومية وعملياتها، ولذلك فإنه يجب على الحكومات تطوير تطبيقات تتمكن من التفاعل مع المستفيدين من الخدمات الحكومية إلكترونياً وتقديم تلك الخدمات لهما على نحو منفرد، مواطنون، شركات، موظفو الحكومة، وغير ذلك، ولذلك فإنه يجب توافر خدمات عبر الإنترنت والشبكات الرقمية بشكل دائم بالإضافة إلى وجوب تقديم الخدمات عبر جميع قنوات الوصول في المكاتب، كما يتضمن هذا البُعد توفير الخدمات الخاصة بالمستفيدين بشكل مباشر بجودة وكفاءة عالية من خلال إعادة هندسة الإجراءات وميكنتها، تصميم العمليات التي تركز على المستفيد، دعم الإمكانات المتقدمة للموظفين والاستثمار في التكنولوجيات المتقدمة كتحليل البيانات والذكاء الاصطناعي لتوفير تجربة يسيرة للمستخدم وتعزيز وتطوير الأداء والإنتاجية.
اسلام جمال إبراهيم، "التحول الرقمي بجمهورية مصر العربية: دراسة تحليلية لمنصة مصر الرقمية"، المجلة العلمية للمكتبات والوثائق والمعلومات، (مصر، بني سويف: كلية الآداب-جامعة بني سويف، العدد 13، 2023)
تركي زكي الدوبي، "قياس التحول الرقمي بالمملكة العربية السعودية: دراسة تحليلية لأداة قياس التحول الرقمي"، المجلة العلمية للتربية البدنية وعلوم الرياضة (المملة العربية السعودية: جامعة أم القرى العدد 99، 2023)
سناء محمد عبد الغني، "انعكاسات التحول الرقمي على تعزيز النمو الاقتصادي لمصر"، مجلة كلية السياسة والاقتصاد، (مصر: كلية السياسة والاقتصاد-جامعة بني سويف، العدد 14، 2022)
ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ
ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.
اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.