يُمَثِّل مدى قدرة الدولة على الوفاء بوظائفها اهتماماً أكاديمياً وسياسياً كبيراً، ويَرجِع بالأساس إلى ما تُشكلهُ الدولة من فاعل محوري في إدارة العلاقات الدولية، حتى مع ظهور منافسين جدد لها من الفاعلين الدولييِّن من غير الدول. فمن أهم وظائف السلطة السياسية وواجباتها؛ توفير السلع السياسية لمواطنيها (كتنظيم الحقوق والحريات المدنية، العناية الصحية والطبية، توفير بنى تحتية ذات كفاءة عالية، توفير نظام مؤسساتي إقتصادي ناجح يستطيع المواطنون من خلاله أن يسعوا إلى تحقيق أهدافهم ومشاريعهم؛ ولعل تحقيق الأمن والأمان في قمة هرم تراتبيّة السلع السياسية، الذي يضمن توفير والتمتّع بالسلع الأُخرى).
إلا أنَّ زيادة حدّة صراعات القوى الكبرى في النظام الدولي على استقطاب الدول، في محاولة من أحد أطراف الصراع الدولي لللإمساك بزمام الأمور في التعامل مع الوحدات الصغيرة والمتوسطة، والإستفادة من الخلل في موازين القوى الدولية لمصلحتها من جانب، وتقصير حكومات بعض الدول وانتشار الفساد وسوء الإدارة من جانب آخر، جعل بعض الدول تنهار وتفقد السيطرة على الحكم، ليحكمها بعد ذلك ملشيات مسلحة أو ماشابه من أمراء الحروب مُخلفين من ورائها معاناة ؛إنسانية، سياسية، إقتصادية، ثقافية، أمنيّة كبيرة، الأمر الذي وَلَّدَ الرغبة لدى الباحثين في البحث عن مفهوم ومُسبّبات فشل الدول.
يُعْتَبَرْ مفهوم الدولة الفاشلة كظاهرة قديم الوجود، فهي صفة تلازم الدول التي تعجز عن القيام بوظائفها عامة، أمّا مصطلح الدولة الفاشلة؛ فقد بدأت أدبيّات السياسية تتناوله في أوائل التسعينيات من القرن العشرين وتحديداً عند بداية انهيار الحكومة الصومالية، الأمر الذي دعى الباحثين والمفكرين للبحث في ماهيّة فشل الدولة ومحدداتها بل وتبعاتها، التي تفاقمت مخلّفة من ورائها كوارث إنسانية. فظهرت دراستان لعبتا دوراً أساسياً في تشكيل مفهوم الدولة الفاشلة، كانت الدراسة الاولى لـ “جيرالد هيرمان Gerald B. Helman - ستيفن راتنر Steven R. Ratner” عن الدولة الفاشلة ونُشرت في مجلة السياسة الخارجية الامريكية عام 1993، أما الثانية فهي لـ “وليام زارتمان William I. Zartman” عن الدولة المنهارة عام والتي كانت في عام 1995..
أشار كلاً من “راتنر و هيرمان Helman & Ratner” في دراستهما إلى أنّ مفهوم الدولة الفاشلة يمكن أن يُختصر”بتلك الدول التي لا تستطيع أن تلعب دوراً ككيان مستقل.” وضربا المثل بهايتي، يوغوسلافيا، والاتحاد السوفياتي، السودان، ليبيريا، وكمبوديا.
في حين أشار "زارتمان Zartman " في دراسته حول الدول المنهارة، بأنها “تلك الدول التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها الأساسية” وضرب مثالاً على ذلك بالكونغو في الستينيات من القرن العشرين، وتشاد وغانا وأوغندا في أواخر ثمانينيات القرن نفسه، والصومال وليبيريا وإثيوبيا مع بداية تسعينيات القرن العشرين.
ورأى آخرون أنّ الدولة الفاشلة؛ هي الدولة التي تحكمها الملشيات المسلحة. فيما عبّر بعض الباحثين وقالوا بأنها: تلك الدولة التي تفقد السيطرة على وسائل العنف الخارج عن الإطار القانوني. ومن ثم تكون عاجزة عن تحقيق السلام والاستقرار لشعوبها، وفي فرض السيطرة على أراضيها أو جزء منها، وعليه لا تستطيع ضمان النموّ الإقتصادي، أو أي توزيع عادل للسلع الاجتماعية، وغالباً ما تتميز بانعدام المساواة الإقتصادية والمنافسة العنيفة على الموارد.
إن معظم التعاريف السابقة تتمحور حول قدرة الحكومة على القيام بواجباتها السيادية على ما تملك بأكمل وجه، وأنه كلما ما ضعفت وتفككت وكانت على وشك انهيار حكومي، كلما باتت الدولة أقرب إلى الفشل.
وفي هذا السياق، تبلورت مقاربة كمية رقمية تحت مسمى “مقياس الدول الفاشلة Fragile States Index”، والذي يصدر عنه قائمة بترتيب الدول، حسب درجة إخفاقها، وفقاً لمؤشرات إقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وأمنية، بحيث أصبح هذا المقياس السنوي يحظي باهتمام وسائل الإعلام العالمية، ودوائر صنع القرار في الدول الكبرى، بما يعيد تشكيل الخطاب السياسي، وتوجهات السياسات الدولية بشكل عام فضلاً عن اتجاهات تأثيره في السياسات الدولية.
منذ عام 2005 بدأ صندوق السلام (Fund For Peace)، بالإشتراك مع مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy)، في إصدار تقارير سنوية حول الدول الفاشلة، وقد حددت منظمة (FFP) Fund For Peace خصائص رئيسية للدول الفاشلة تمثلت بـ:
١- فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، أو فقدان إحتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها.
٢- تآكل السلطة الشرعية، لدرجة العجز عن إتخاذ قرارات موحدة.
٣- عدم القدرة على توفير الخدمات العامة.
٤- عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
كما وضع صندوق السلام (Fund For Peace) مجموعة من المعايير وفق آلية علمية تستخدم برامج معقدة ومتطورة تقوم بمسح عشرات الآلاف من المصادر الإخبارية لجمع المعلومات وتحليلها، ومن ثم تأطيرها ضمن 12 مؤشراً فرعياً وهم ( الضغط الديموغرافي، اللاجئين والنازحين، انتشار الظلم، حق السفر والتنقل، الناتج الإقتصادي المتفاوت، الإنحدار الإقتصادي، شرعية الحكم، الخدمات العامة، جهاز الأمن، الفصائل والطوائف المختلفة، التدخل الخارجي)، وتتراوح قيمة كل منها بين (0-10)، وكلما حازت الدولة علامات أعلى كلما تصدرت قائمة تصنيف الدول الفاشلة. وللتسهيل سنقسمهم إلى مؤشرات رئيسية لتوضح في كيفة الحكم على فشل الدولة:
١- المؤشرات السياسية: وأهمها يتمحور بمدى درجة شرعية ومصداقية نظام الحكم، تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، تعطيل أو تعليق تطبيق حكم القانون وانتشار ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، تنامي حالة من ازدواجية المسؤولية الأمنية بحيث تتمتع جهة بسلطة تضاهي سلطة الدولة، وجود حالة من عدم الااستقرار السياسي خاصة على المستوى المؤسساتي، تزايد حدة التدخل الخارجي سواء من جانب دول أو فاعلين من غير الدول.
٢- المؤشرات الإقتصادية: وأهمها عدم انتظام معدل التنمية الاقتصادية، استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة، بالإضافة إلى ازدياد معدلات الفساد وانتشار المعاملات العرفية.
٣- المؤشرات الاجتماعية: من ملامحها تصاعد الضغوط الديموجرافية، ويعبر عنه بارتفاع كثافة السكان في الدولة، وانخفاض نصيب الأفراد في المجتمع من الاحتياجات الأساسية، تزايد حركة اللاجئين بشكل كبير إلى خارج الدولة، أو تهجير عدد من السكان في منطقة داخل الدولة بشكل قسري، وجود إرث عدائي لدى أفراد الشعب، انتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات.
وغالبًا ما يأتي فشل الدول على أصعدة متوازية، لا يمكن الإمساك بأيهما السبب وأيهما النتيجة، بمعنى أنه يمكن للفشل على الصعيد الاجتماعي أن يكون مسبباً لفشل على الصعيد الإقتصادي، وعليه تفشل المؤسسات السياسية في تدارك الفشل المترتب على الصعيدين السابقين، لتتصاعد احتمالات تدخل قوى خارجية في الدولة. وقد تبدأ دائرة الفشل بالعكس، بحيث تكون العوامل الخارجية هي نقطة البداية في حلقة الفشل، فإمّا أن تتسبب العوامل الخارجية فيه، أو أن تُعَزِّز عوامل الفشل الكامنة داخل الدولة فتظهر أعراضها الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والمؤسساتية، وتعد هذه النظرة نظرة واسعة فضفاضة تتضمن جوانب ومجالات متعددة ومتشابكة مما يضمن الحكم بالفشل على أي دولة، وهو بذلك يصبح لفظًا تحكميًّا غير موضوعي، مما دفع إلى تصميم مؤشرات قابلة للقياس تستطيع تقديم صورة أكثر تفصيلا لحالة الفشل تسمح بالحكم على شكل ودرجة ونمط الفشل الذي تعاني منه كل دولة.
إنّ هذه الخصائص إذا ما تحققت داخل دولة ما يمكن أن يؤدي إلى ظهور اللاجئين وحركة نزوح لا إرادية من السكان، ترغمهم على النزوح أو اللجوء نتيجة التدهور الإقتصادي الحاد. ووفقاً لنظريات الباحث السياسي “ماكس فيبر Max Weber” التي تقول، "من الممكن أن تكون الدولة ناجحة وأن تبتعد عن معيار وخصائص الدولة الفاشلة عن طريق المحافظة على احتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها، دون السماح لجماعات مسلحة أو أمراء الحرب أو أي تنظيم مسلح من السيطرة على أي جزء داخل الأراضي، بحيث أن تبقى الكلمة الفصل والسلطة للدولة وحدها". إلا أنّ احتكار الدولة وحدها على القوة والسلطة داخل مناطقها لا يكفي على حسب محددات ومؤشرات صندوق السلام (Fund For Peace)، فتوفير السلع السياسية ،وضمان عدم هجرة العقول وغيره من المحدادات هي أيضاً عامل هام لضمان نجاح الدولة من منظرور صندوق السلام.
نهايةً من الممكن القول أنه ليس هناك إجماع حقيقي حول تعريف "الدولة الفاشلة”، فمنهم من وضَّحَهُ بشرعية الحكم، ومنهم من حدده بقدر احتكار السلطة بيد الدولة وحدها على ما تملك ومنهم من أوعزه بقدرة الدولة على توفير السلع السياسية للمواطنين، فلكل دولة فاشلة طريقتها في الفشل.
إلا أنه يبقى تصنيف صندوق السلام (Fund For Peace)، بالإشتراك مع مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy) هو التصيف الأساس والمعتمد من قبل الباحثين في دراسة الدولة الفاشلة، وذلك لأنه يقدم تقريراً سنوياً عن تصيف تلك الدول وفق معايير مدروسة، كما يفتح أبواب النقاش في قضايا مرتبطة بالظاهرة مثل: لماذا تفشل الدول، وما الذي يجب فعله لإنقاذها، تمهيدًا لإيجاد حلول لها.و لمشاهدة تقرير صندوق السلام (Fund For Peace) عن ترتيب الدول الفاشلة لعام 2015 إضغط هنا.
رنا أبو عمرة، مجلة السياسة الدولية، مأزق الخصوصية وعوامل الإنهيار في مؤشر “الدول الفاشلة”، مجلة السياسة الدولية.
رنا أبو عمرة، مجلة السياسة الدولية، تعثر إنتقالي (أوضاع دول الربيع العربي في ضوء مقياس الدول الفاشلة).
د. إياد العنبر، واسحق يعقوب محمد، مستقبل العراق دراسة في العلاقة بين مؤشرات الدولة الفاشلة ومتغيرات انهيار الدولة، حولية المنتدى المجلد الأول العدد: 19، سنة 2014.
عبد الله حميد الدين،مفهوم الدولة الفاشلة، جريدة الحياة.
William Zartman, Collapsed States: The Disintegration and Restoration of Legitimate Authority
صندوق السلام - Fund For Peace
Charles T Call, The Fallacy of the 'Failed state', Third world Quarterly
Robert I. Roberg, Foregin Affairs, Failed States in a World of Terror
ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ
ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.
اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.