السياسات العمومية - Public policy

نشأة وتطور مفهوم السياسات العمومية:

ظهر مفهوم علوم السياسات في بداية الخمسينات من القرن العشرين، وكان أول من استخدمه هو العالم الأمريكي هارولد لاسويل- Harold Dwight Lasswell. تتناول هذه العلوم بصفة عمومية الموضوعات المتصلة بعمليات اتخاذ القرارات الكبرى فيما يتعلق بالنظام العام، بينما كان الاهتمام التقليدي لعلم السياسة منصبا على البناء المؤسساتي للحكومات والتبرير الفلسفي لوجودها. وبعد الحرب العالمية الثانية وفي خضم تنزيل مشاريع عمومية للإعادة إحياء دول أوروبا الغربية، انتقل التركيز من المؤسسات الى العمليات و السلوك، يعني الانتقال من دراسة المدخلات الى دراسة المخرجات.

وفي هذه الفترة، كان مفهوم السياسات العمومية مرتبطا بشكل وثيق بمؤسسة الدولة. بيد أن هذا الارتباط سرعان ما تراجع عند بداية الثمانينات من القرن الماضي، و ذلك بعد بروز مفاهيم كاللامركزية و عدم التركيز في علم الإدارة والقانون الإداري التي دفعت مشاركة مؤسسات أخرى غير الدولة كالجماعات الترابية في إنتاج سياسات عمومية في حدودها المجالي. بعد ذلك عرف مفهوم السياسات العمومية تطورا مرتبطا بحقل آخر غير حقل علم الادارة وهو حقل علم الاجتماع السياسي المتمثل في ظهور فاعل أساسي وهو المجتمع المدني بممارسة أدوار مختلفة متمثلة في المشاركة في إعداد السياسات العمومية.

وهكذا لم يعد مفهوم السياسات العمومية منحصرا فقط في مجال تدخل الدولة بل شمل تدخل الجماعات المحلية والمؤسسات الرسمية، بل وقد ذهب أبعد من ذلك عبر شمل هذا المفهوم متدخلا آخر: المجتمع المدني. 

تعريف مفهوم السياسات العمومية:

السياسات العمومية مفهوم مركب من لفظين: الأول لفظ السياسة، والثاني لفظ العمومية.

 أولا : مفهوم السياسة

يتشكل مفهوم السياسة من ثلاث مستويات مفهومية ومجالية مختلفة، وفِي نفس الوقت مترابطة ومتكاملة.

السياسة كموضوع للشأن العام: Polity

وتشمل مجموع الفاعلين الممارسين لسلطة إدارة وتدبير وتسيير الشأن العام داخل المجتمع.

السياسة كموضوع للمجتمع السياسي : Politics 

وتشمل مجموع علاقات الصراع والاقتراب والتحالف والتنسيق، بين مجموع الأحزاب السياسية، بمختلف ألوانها ومرجعياتها الأيديولوجية والبرامجية، والتي تشكل المجتمع السياسي. وتستهدف وتطمح في استراتيجيات عملها السياسي، الوصول الى ممارسة السلطة، وفق قواعد المشروعية الديمقراطية. 

السياسة كموضوع للبرنامج السياسي: Policy 

 وتشمل مجموع البرامج السياسية العملية التي يتم إعلانها من جهة من أطراف سياسية مرتبطة ببنية تشكيل الدولة ( كالحكومة، أو قطاع من قطاعاتها الوزارية، أو مؤسسة عمومية او إدارية أو حزب سياسي.. ) أو يتم إعلانها من جهة أخرى من أطراف سياسية غير مرتبطة ببنية تشكيل الدولة ( كمنظمات اصحاب المقاولات، المنظمات النقابية للعمال، مكونات المجتمع المدني...)

ثانيا: مفهوم العمومية

إنطلاقا من التحديد الموضوعاتي السابق لتعريف مفهوم السياسة، يتضح ان السياسة العمومية هي علاقة تركيب، بين السياسة كموضوع لتدبير الشأن العام، وفِي نفس الوقت كموضوع لبرنامج سياسي عملي لسلطة.

يمكننا القول أيضا أن ارتباط السياسات العمومية بالمشترك بين مجموع المواطنين والافراد هو الذي يعطيها صفة العمومية.

ثالثا: مفهوم السياسات العمومية:

يعرف المعهد العالي للدراسات العمومية في فرنسا السياسة العمومية على أنها " هي مجموع القرارات و الاعمال والتدخلات المتخذة من قبل الفاعلين المؤسساتيين والاجتماعيين لأجل إيجاد حلول لمشكل جماعي ما".

ويعتبر جون كلود توينغ - Jean-Claude Thoenig  السياسات العمومية  على أنها " هي التدخلات التي تقوم بها السلطة باستعمال القوة العمومية و الشرعية الحكومية في مجال محدد على مستوى المجتمع أو التراب". 

وبذلك يمكن القول أن السياسات العمومية هي فعل تدخل عمومي لسلطات عمومية مختصة وذات مشروعية عبر برنامج عمل في مجال محدد من مجالات المجتمع و في فضاء ترابي محدد وكذلك في مدة زمنية محددة من أجل تسوية مشكل عمومي.

صناع السياسات العمومية:

تتدخل مجموعة من الفاعلين في وضع و رسم السياسات العمومية و تنقسم إلى صناع رسميين و غير رسميين.

أولا: الفاعلون الرسميون:

من بين الفاعلين الرسميين الذين يضعون السياسات العمومية:

السلطة التشريعية: هي السلطة المكلفة بصياغة التشريع.

السلطة التنفيذية: هي السلطة التي تقوم بتنفيذ القوانين وإدارة المرافق العامة.

السلطة القضائية: هي السلطة التي تقوم بالمراجعة الدائمة والمنتظمة للقوانين.

ثانيا: الفاعلون غير الرسميين:

تعتبر عملية صنع السياسات العمومية عملية تشاركية بحيث يشارك فيها إلى جانب الفاعلين الرسميين، فاعلون غير رسميين. يتمثل الفاعلون الغير الرسميين في:

الأحزاب السياسية: وهي تجمع أفراد يعملون في إطار فكري-اديولوجي من خلال برامج سياسية بهدف الوصول للسلطة وممارستها والبقاء فيها. وتنشط الأحزاب في شكل أحادي أو جماعي أي تحالفات و جبهات. وتتدخل الأحزاب بشكل مباشر في صياغة السياسات العمومية من خلال القيادة أو المشاركة إذا كانت في سدة الحكم، الضغط أو تقديم المشورة إن كانت في المعارضة.

المواطنون: يساهم تعبيير المواطنين عن أولوياتهم و قضاياهم في التأثيير على صياغة السياسات العمومية من خلال جماعات الضغط أو الأحزاب السياسية أو الانتخابات.

الإعلام: للإعلام أدوار متعددة في السياسات العمومية: دور إخباري، دور تعليمي، و دور رقابي. 

المجتمع المدني:  تشترك مختلف مكونات المجتمع المدني بالعمل والدفاع عن قضاياهم المتعلقة بالشأن العمومي، وتتمثل أدوار المجتمع المدني في مجال السياسات العمومية في التعاون والضغط.

أنواع السياسات العمومية:

يمكننا تقسيم السياسات العمومية إلى نوعين:

سياسة عمومية قطاعية أي تهتم بشؤون قطاع خاص ومحدد كقطاع التعليم  أو الشباب أو الفلاحة أو السياحة.

سياسة عمومية ترابية: أي تهتم بمنطقة ذات خصوصية سياسية أو جغرافية أو طبيعية. 

محددات السياسات العمومية:

يعتمد وضع السياسات العمومية على محددات أساسية:

- تهدف إلى إيجاد حل لمشكل عمومي.

- وجود مجموعة مستهدفة من السياسة العمومية.

- ضرورة وجود انسجام ين تحديد المشكل و إعداد السياسات و الآليات المعدة لوضعها حيز التنفيذ.

- مخرجات السياسات العمومية ملزمة وواجبة التطبيق.

مراحل بناء السياسات العمومية:

يتطلب فهم السياسات العمومية اتباع أربع مراحل، وهي كالتالي : 

1- الوضع في الاجندة (الولوج إلى الاجندة المؤسساتية):

يبدأ المشكل في البداية كمشكل فردي ثم يتطور إلى مشكل جماعي عبر امتلاك الأنا الجماعية ليتحول بعد ذلك الى مشكل اجتماعي عبر تسليط الضوء عليه وتبنيه من طرف محامي أو هيئة تدافع عنه سواء تكونت من طرف المتضررين من المشكل أو فقط هيئة تبنت المشكل، ليتحول بعد ذلك إلى مشكل عمومي ثم مشكل سياسي موضوع أجندة منظوماتية وذلك بعد تحقق اجماع سياسي من طرف الفاعلين بشكل مبدئي، ليتم احتضانه في الأخير مؤسساتيا وليلج الأجندة المؤسساتية. 

2- بلورة وصياغة السياسة العمومية:

هي مرحلة صناعة الحلول في برامج عمل واضحة تهدف إلى تقديم حلول عملية واسعة المعالم لكل المشاكل موضوع السياسة. وهكذا فإن صياغة وتبني إحدى السياسات أو البرامج العمومية يعني قيام السلطات العمومية بتفعيل عملياتي للتدابير و تقدير ووزن مختلف السبل الممكنة لإيجاد حل للمشكل.

3- تنزيل السياسات العمومية:

في هذه المرحلة يتم تنفيذ مجموعة من: النشاطات والإجراءات والتدابير التنفيذية الهادفة لوضع السياسات العمومية حيز الواقع العملي، باستخدام الوسائل والامتيازات المادية والبشرية في سبيل تحقيق مقاصد السياسات العمومية.

4- تقييم السياسات العمومية:

يتمثل تقييم سياسة عمومية في دراسة منجزة تهدف إلى تقدير قيمة هذه السياسة من حيث أهدافها وطرق تنزيلها على أرض الواقع ونتائجها وآثارها الإقتصادية والإجتماعية، وقياس مستوى الأداء، وذلك كله من أجل تقدير مدى وجاهة هذه السياسة. ومن هذا المنطلق، أصبح تقييم السياسة العمومية يكتسي مزيدا من الأهمية داخل النقاش العمومي، خاصة وأن الرأي العام والساسة أصبحوا تواقين إلى الإعتماد في قراراتهم على معطيات ملموسة ومضبوطة.