ادعمنا

العدالة الدستورية - Constitutional Justice

ارتبط تطوّر المجتمعات بالمتغيرات التي يشهدها العالم على مختلف الأصعدة، لا سيما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها. وفي ظل هذه المتغيرات طرأ تبدل من حيث النظرة إلى حقوق وحريات الإنسان التي كانت محور اهتمامات ودوافع الشعوب للتحرك بحثاً عن وسائل لضمان صيانتها. وقد أصبح الدستور بمثابة القاعدة القانونية الأعلى، إذ يتم العودة إليه فيما يتعلق بالحقوق والواجبات الأساسية للأفراد والجماعات من أجل وضع ضمانات لهم في علاقتهم مع السلطة. فبعد سلسلة طويلة من التطورات في السياق القانوني والمسار الديمقراطي، ظهر مفهوم العدالة الدستورية الذي لعب دوراً هاماً في المجال الدستوري والقانوني والحقوقي وتوسع تبنيه في القرن العشرين. فكيف تطورت العدالة الدستورية وإلى أي مدى نجح تطبيقها في الدول التي تبنتها؟

 

مفهوم العدالة الدستورية معجمياً

إنّ العدالة الدستورية مفهوم مكون من مصطلحين؛ العدالة أي العدل والدستور. كذلك سيتم ذكر تعريفهما كما ورد في المعجم لكي يتضح المقصود من جمع المصطلحين واستخدامهما معاً.

العدالة: بالعودة إلى المعجم الوسيط تُعرّف العدالة كالتالي "(في الفلسفة): إحدى الفضائل الأربع التي سلّم بها الفلسفة من قديم. وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. (العدلُ): الإنصاف، وهو إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه. وبالاستناد إلى المعجم الكافي إنّ العدل "مصدر عدَلَ -: إحقاق الحق -: ما قام في النفس أنه مستقيم، ضد الجور. – الفداءُ – الاستقامةُ -: المثل والنظير. -: الجزاءُ -: المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. ج: أعدالٌ وعُدْولٌ." 

الدستور: ورد تعريف الدستور في المعجم الكافي على أنه "القاعدة التي يعمل بها. -: مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطتها إزاء الأفراد. ج: دساتير. الدستوري: المنسوب إلى الدستور. 'حكمٌ دستوريٌّ أو عمل دستوريٌّ' يجري وفقاً للدستور." كما أن ذُكِر في المعجم الوسيط على أنه "القاعدة يعمل بمقتضاها. والدفتر تُكتب فيها أسماء الجند ومرتّباتهم." بالإضافة إلى التعريف الموجود نفسه في المعجم الكافي.

 

تعريف العدالة الدستورية

إنّ مسألة العدالة الدستورية حازت على اهتمام العديد من الفقهاء. "فيعرف فرانسيس هامون- Francis Hamon 'العدالة الدستورية بأنها مؤسسة ينيط بها الدستور حل النزاع المتعلق بتطبيق أو تفسير نص له قيمة دستورية'." إذاً قد ربط تعريفها بوجودها كمؤسسة يقع على عاتقها حل النزاعات الناتجة عن النصوص التي لها قيمة دستورية. وبذلك ذهب دومينيك روسو-Dominique Rousseau نحو تعريفها بشكل أوسع حيث يقول: "'فالعدالة الدستورية هي تلك المعطاة لأشخاص يعينوا ويراقبوا ويعاقبوا عدم الملاءمة الدستورية لأعمال صدرت عن السلطات العامة، وبصورة خاصة القوانين التي يقرها البرلمان'." وبهذا التعريف لروسو يكون قد قدم دور السلطة التي تمارس العدالة الدستورية بالرقابة على دستورية القوانين التي يقرها البرلمان. بالإضافة إلى تعريف ميشال فرومو- Michele Fromton ، فيعرف العدالة الدستورية "على أنها مجموعة من التقنيات والمؤسسات التي تراقب علاقة الحكومة بالبرلمان بهدف حماية الحقوق والحريات." فتعريف فرومو يسلط الضوء على رقابة المؤسسة التي تؤمن العدالة الدستورية للتمكن من ضمان حقوق وحريات الأفراد.

يعتبر أمين عاطف صليبا أنه تأسيساً على المفهوم الحديث للقانون وإعادة تقويم النظرة إلى الدستور لكونه القانون الأساسي في أي الدولة، "كان لا بدَّ إيجاد آلية ما، ليأتي القانون بمفهومه الحديث الهادف إلى الموازاة ما بين حقوق الإنسان وحرياته التي يضمنها الدستور، وتأمين المصلحة العامة. هذه الآلية تجسدت في تطبيق (العدالة الدستورية La Justice Constitutionnelle) التي أنيطت بالقضاء الدستوري الذي أصبح هاجسه ضبط مسار القوانين من خلال فرض رقابته التي لا بدَّ منها."

 

العدالة الدستورية انطلاقاً من السمو الدستوري

من خلال مبدأ هرمية القواعد القانونية وتدرجها في الدولة، يحتل الدستور المرتبة الأعلى وتخضع له كافة السلطات المنشأة سواء التشريعية أو التنفيذية أو القضائية. حيث أنّ لضمان شرعية أي قانون أو مرسوم يجب أن يتلاءم مع مبادئ الدستور، وفي حال التعارض فيما بينهم إن الدستور يسمو على كافة القواعد الأخرى ويحق للقضاة الدستوريين إبطالها. وبذلك إنّ الهيئة التي تنشأ بغية تأمين العدالة الدستورية من خلال الرقابة على دستورية القوانين، يكون جل اهتمامها التأكيد على اعتبار الدستور وثيقة أساسية؛ تنظم المؤسسات الدستورية وتضع لها حدود وضوابط للتأكيد على منع استبدادها وللحفاظ على التوازن بين السلطات وكفالة الحقوق والحريات المدرجة والمنصوص علبها ضمنه. أي يفترض أن يكون هناك توافق بين القوانين نص الدستور وصلبه، وهذا ما يتطلب أن يكون للمحاكم صلاحية في تفسير القوانين. في هذا السياق "نعني بالرقابة على دستورية القوانين ضمان احترام مبدأ السمو المادي للدستور. ذلك أن سموّ الدستور المادي يصبح شعاراً فارغاً من المضمون إذا كان ثمة إمكانية لانتهاك الدستور والقواعد الدستورية من قبل السلطة التشريعية. فالسمو المادي للدستور يفترض وجود هيئة سياسية أو قضائية أو دستورية يعود لها الحق بإبطال أو تعليق العمل بقانون ما إذا ما وجدته مخالفاً للدستور." 

 

أهداف العدالة الدستورية

تكمن أهمية العدالة الدستورية التي تشكل مؤسسة هامة في دولة الدستور من خلال الأهداف التي تصبو إليها. حيث "لم يكن إنشاء المحاكم الدستورية خياراً تلجأ إليه الدول، بل وجدته أمراً واجباً لاستكمال بناء الدولة الدستورية. بحيث أن أي دولة ترغب بضمان انطباق أعمال السلطات على الدستور، وبأن تسمى فعلياً بالدولة الدستورية، فإن عليها أن تنشئ هيئة تتولى الرقابة على حسن تطبيق الدستور، إذ يستحيل أن يترك أمر احترام الدستور إلى الهيئات التي يناط بها تطبيقه." وأبرز هذه الأهداف تتجلى فيما يلي:

- حل النزاعات الناتجة عن تطبيق نصوص لها قيمة دستورية أو تفسيرها من قبل المؤسسة- المحكمة التي تناط بها هذه المسؤولية. فتهدف إلى إزالة الغموض عن هذه النصوص للحد من امكانية تعسف السلطة.

- ضمان احترام السمو المادي للدستور الذي ذكر آنفاً من خلال الرقابة على دستورية القوانين. بذلك يكون للقضاء الدستوري الحق بتعليق العمل بقانون أو إبطاله اذا وجدته مخالفاً لمبادئ الدستور، ويتمكن من القيام بذلك إما بالرقابة السابقة أي قبل التطبيق أو بالرقابة اللاحقة بعد تطبيق القوانين. وهذا يختلف تبعاً للطريقة والصلاحيات المعطاة للمحكمة.

- صيانة الحقوق والحريات للتمكن من ضمان العمل بها، وذلك للتمكن من تعزيز الممارسات الديمقراطية.

- تأمين التوازن بين السلطات مع سيادة الدستور لكي لا تتمكن أي سلطة من التعسف بصلاحياتها.

 

تطور العدالة الدستورية 

إنّ العدالة الدستورية لم تكن وليدة فترة زمنية قصيرة، إنما تكرست بعد فترة طويلة من الاجتهادات والأحداث التي أدت إلى تحولات جمة على صعيد المؤسسات الدستورية وصلاحياتها. وقد كان للولايات المتحدة الأمريكية دوراَ أساسياً في إنشاء وتكريس العدالة الدستورية انطلاقاً من الرقابة الدستورية على القوانين. وقد كانت لثورة المستعمرات في الولايات المتحدة (المستعمرات الثلاث عشرة في العام 1776) ومؤتمر فيلادلفيا (في العام 1787 الذي نتج عنه قيام الاتحادية وإناطة السلطة القضائية بالمحكمة العليا الاتحادية) دوراً بارزاً في الابتكارات الدستورية الفريدة. إلاّ أن من الجدير ذكره أنّ في بدايات التفكير بالقضاء الدستوري لم تكن الغاية منه صيانة حقوق وحريات كافة الأفراد والجماعات الأمريكية. وهذا ما أكد عليه شارل بيرد- Charles Beard  من خلال كتابه "تفسير اقتصادي لدستور الولايات المتحدة"، حيث أكد في هذا الكتاب "أن الدستور الأمريكي لم يضعه أنصاف آلهة بل أشخاص كانت لهم مصالحهم الاقتصادية، وذلك من خلال دراسة مستضيفة ومعمّقة وتاريخية يبين فيها أن المصالح الاقتصادية لكبار الرأسماليين عام 1787 وهاجس الحفاظ على ضمانات لحق الملكية وللديون المترتبة على متوسطي الدخل قد لعب دوراً في انتخاب المندوبين إلى المؤتمر في فيلادلفيا ليصل اعتبار الدستور وثيقة اقتصادية أكثر منها سياسية." وهذا يبين أنها كانت قائمة على مصالح اقتصادية، "ولكن بعد إزاحة الاتحاديين عن السلطة في العام 1800 وانتخاب توماس جفرسون أول رئيس جمهوري للولايات المتحدة خلفاً للرئيس الاتحادي جون آدمز تحققت الثورة السياسية الديمقراطية الحقيقة. ومن ثم أخذت المحكمة العليا الاتحادية تطور في اجتهاداتها وأحكامها لكي تتمكن من القيام بدورها في مجال العدالة الدستورية من خلال الأحكام التي أصدرتها فيما يتعلق بالتمييز العنصري والمساواة وغيرها من الحقوق والحريات. وقد كان لقضية ماربوري وماديسون في العام 1803 أهمية كبرى لأنها كانت من أول الأحكام التي صدرت عن المحكمة العليا.

انتشار العدالة الدستورية في أوروبا

منذ زمن بعيد سيطرت على أوروبا المفاهيم المتعلقة بالقانون الأسمى من خلال القانون الكنسي والقانون الطبيعي حيث اعتبروا أن القانون الأسمى يحتوي على مبادئ يتوجب الالتزام بها. ومن ثم بدأت العدالة الدستورية تنتشر بشكل كبير في أوروبا من خلال الدور الذي لعبه هانس كلسن- Hans Kelsen، الذي اعتبر أنه لا بدَّ وجود قضاء يمارس الرقابة الدستورية لضمان سمو الدستور. كما تطرق هلسن من خلال "كتابه القيم إلى رأي هام، عمل من خلاله على تفكيك وهم مقولة القانون معبر عن الإرادة العامة. إذ رأى 'كم من قانون في الواقع موجود ومطبق، بعد أن مات، منذ زمن بعيد الذين أقروه، بمعنى أنه لم يعد باستطاعتهم التعبير عن إرادتهم التي أرادوا التعبير عنها عند إقرارهم لهذا القانون'."وقد كانت بدايات تطبيقها في النمسا التي "أقرت دستوراً استحدث محكمة عليا دستورية وتبعتها في نفس العام 1920ثم إسبانيا في الجمهورية الثانية مع دستور 9 كانون الأول/ديسمبر 1931 حيث أنشأت محكمة الضمانات الدستورية ، وبشكل محدود في جمهورية فايمر في ألمانيا، وأخيراً إيرلندا في دستورها الصادر في 1 تموز/ يوليو 1937." ولكن بعد الأزمات السياسية بسبب انتشار الفاشية والنازية تراجعت العدالة الدستورية في هذه الدول. وعادت لتظهر في دساتير الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حاولت هذه الدول بذل جهود لإنشاء مؤسسات قادرة على منع الاستبداد والدكتاتورية. ورأوا أنه يكمن ذلك من خلال تبني دساتيرهم مسألة الرقابة اعلى دستورية القوانين لحماية حقوق وحريات الأفراد بوجه الاستبداد. وبذلك فيما بعد انتشرت العدالة الدستورية في فرنسا ودول أخرى في أوروبا الغربية. 

 

شرعية العدالة الدستورية

إنّ شرعية العدالة الدستورية بنيت على مرتكزين؛ حقوق الإنسان ورقابة السلطات:

- مرتكز حقوق الإنسان: ثمة نقاش دار حول العلاقة التي تربط بين الحكام والمحكومين؛ التمييز بين الإرادات فيما بينهم. فالرأي الذي يقول أنه ثمة تماثل فيما بينهم، يعتبر أن رقابة القاضي على النشاط التشريعي الذي يقوم به ممثلي الشعب يتناقض مع المبدأ الديمقراطي. وأما الرأي الآخر يعتبر أنه هناك تمييز بين إراداتهم، ولا تتناقض هذه الرقابة مع الديمقراطية إذ أن هناك تناقض بين مصالح النواب ومصالح الشعب. وبذلك إنّ القضاء الدستوري موجود لأنه هناك بين هذه الإرادات. "وبالتالي ثمة مساحتان مختلفتان: فضاء المواطنين المؤلف من الحقوق والحريات ومبادئ التنظيم السياسي المذكور في النص وفضاء الحكام، والذين يقتصر حقهم على احترام حقوق موكليهم والدفاع عنها وتطويرها. ولكي يكون لهذا التمايز معنى يجب أن يكون لكل فضاء تعبيره المؤسساتي وإلا فإنّ من يفتقده يبقى دون صوت ويرى نفسه مصادراً كلياً بالفضاء الذي يحتوي الأجهزة الضرورية لهذا القانون."وبهذا المرتكز برزت المجالس والمحاكم الدستورية التي تقدم نفسها على أنها أجهزة في فضاء المواطنين.

- مرتكز رقابة السلطات: وإن المرتكز الثاني للعدالة الدستورية قائماً على الرقابة على السلطات. وحول هذا الأمر أيضاً تناقضت الأجوبة عليه. فهناك من اعتبر أن العدالة الدستورية أي رقابة القضاء الدستوري يتناقض مع مفهوم السلطة التي انبثقت عن الانتخابات ويعتبرون أن الشعب هو من يراقب من انتخبهم عن طريق ابعاد أو اسقاط المرشحين أثناء التصويت. أما الرأي الآخر يعتبر أن الشعب ممكن أن يخطئ أثناء انتخابه وبذلك لا بدّ أن يكون هناك رقابة مستمرة لضمان حقوق وحريات المواطنين وعدم تعارض القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية وأعمال الحكومة مع المبادئ الدستورية الأساسية.

 

الآراء المعارضة للعدالة الدستورية 

إنّ فكرة القضاء الدستور والعدالة الدستورية لاقت بعض الآراء المعارضة لاعتبارها أنها نتعارض مع مبادئ الديمقراطية وفصل السلطات. حيث اعتبر البعض أنّ "الرقابة على دستورية هي رقابة سياسية بحسب المآل، ومهما كانت فهي تتأثر وتنفعل بالاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في الدولة، ولهذا فهي معرضة للانحراف السياسي الذي يرافق هذا النوع من الرقابة منا يؤثر على أساسها المنطقي." فمنذ القدم كانوا الثوار في فرنسا من "الأكثر عداء للعدالة الدستورية إن لجهة الحذر من السلطة القضائية التي عارضت كل الإصلاحات التي حاول القيام بها الملك أم بسبب هيمنة مفهوم مثالي للقانون الذي أعطاه مونتسكيو وفولتير وروسو نوع من الهالة والاحترام المطلق لأنه يمثل العدالة عندما يقرّه الشعب ولو بطريقة غير مباشرة من خلال ممثليه أو النواب." وهذا يبين أن رفضهم ومعارضتهم للعدالة الدستورية انطلق من اعتبارهم أن السيادة الشعبية تتفوق على سمو المبادئ والقواعد القانونية وأن الرقابة القضائية تحد هذه السيادة. 

كما أنّ بيار كوت- Pierre Cot من المعارضين للعدالة الدستورية معتبراً أن "إنشاء هيئة خاصة تقترح عدم دستورية القانون سيؤدي إلى خلق الحذر والتخوف لدى ممثلي الشعب. وإذا اعتبرنا أن البرلمان يمكن أن يخرق الدستور فإن المحكمة العليا أو الهيئة المختصة قد تخرق الدستور أيضاً."

وفي هذا الصدد يقول أحمد كامل أبو المجد أن ""الدرس القيم الذي تمليه علينا التجربة الأمريكية الطويلة في الرقابة على دستورية القوانين، أن هذه الرقابة سلاح ذو حدين، فهي إن أحسن القضاء استعمالها واعتدل في ممارستها كانت مظهراً أساسياً من مظاهر سيادة القانون ووسيلة فعالة من وسائل حماية حقوق وحريات الأفراد والأقليات. أما اذا اشتط في استعمالها، واستغل غموض النصوص الدستورية التي يحاكم السلطات العامة إليها للوقوف في وجه الأغلبية المنتجة في المسائل الاجتماعية والاقتصادية، وفرض وصاية حقيقية على الهيئة التشريعية فإنها تنقلب حينئذ إلى معول خطير من معاول هدم الحياة الديمقراطية السليمة...'"

 

واقع العدالة الدستورية في الدول الغربية

لعب القضاء الدستوري دوراً بارزاً في تكريس العدالة الدستورية في الدول الغربية والتي كانت لصالح الأفراد والجماعات وسيتم عرض بعض الأمثلة عن القضايا التي تم العمل عليها من خلال المحكمة العليا أو المحاكم الدستورية:

- في مجال القواعد القانونية: ساهم القضاء الدستوري بالرقابة على القواعد القانونية للتأكد من شرعيتها. حيث ينظر بالدعاوى التي تعرض عليه ويكون له الحق بالبث بعدم دستورية القوانين أو إبطالها. وهذا الأمر يعتمد على مدى الصلاحيات التي يعطيها الدستور لهذه المحاكم. فعلى سبيل المثال "سعت المحكمة الدستورية الإيطالية من رقابتها على المراسيم الاشتراعية التي تصدرها الحكومة سنداً للمادة 77 من الدستور الإيطالي لعام 1947 الذي يجيز للحكومة في حالات استثنائية والضرورات الملحة اتخاذ تدابير مؤقتة لها قوة القانون تعرض لاحقاً على البرلمان من خلال قانون التحويل، وبمعرض نظرها في قانون التحويل قضت المحكمة الدستورية باتخاذ القرار بإبطال بعض مواد المرسوم الاشتراعي محل التصديق، وهي بذلك تقرر الدخول كمراقب على هذه المراسيم التي كثرت حالات استخدامها من الحكومات الإيطالية."

- في مجال الحقوق والحريات الأساسية: تمكنت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية والمحاكم الدستورية في أوروبا من صيانة حقوق وحريات المواطنين على مختلف الأصعدة وحاولت التصدي لبعض الممارسات التي كانت تنتهك هذه الحقوق مثل التمييز العنصري. ويقصد هنا الحريات بمختلف أشكالها سواء الفردية أو الجماعية. كذلك الحقوق لا سيما الحق في الحياة وما ينتج عنها من قرارات للمحكمة في مسائل تتعلق بالإجهاض والإعدام وإنهاء الحياة، بالإضافة إلى الحق في المحاكمة العادلة والحقوق السياسية وغيرها... وهنا الأمثلة حول هذا المجال تتعدد، فمثلاً في "عام 1915 أعلنت المحكمة العليا بإجماع آراء قضاتها التسعة بعدم دستورية شرط 'الجد' المنصوص عليه في دستور ولاية 'أوكلاهوما'، لأنه يحرم السود صراحة كن حقهم الدستوري في الانتخاب خلافاً للتعديل الخامس عشر."حيث هذه الولاية وضعت شرط الجد، أي أن ليحق للمواطن أن ينتخب؛ يجب أن يكون جده قد كان له الحق بالتصويت. وبما أن أجداد المواطنين السود لم يكن لهم الحق بالتصويت؛ فهذا يؤدي إلى حرمانهم من هذا الحق.

 

واقع العدالة الدستورية في الدول العربية

سعت العديد من الدول العربية إلى نقل تجربة القضاء الدستوري إلى دولها بعد تعزز انتشار وتأمين العدالة الدستورية في أوروبا، وبذلك سيتم عرض بعض التجارب من دول عربية لعرض العوائق التي تواجهها:

- المحكمة الدستورية في لبنان: نصت المادة الأولى من قانون 250 الصادر في العام 1993 على أنه "ينشأ مجلس يسمى المجلس الدستوري مهمته مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية. المجلس الدستوري هيئة دستورية مستقلة ذات صفة قضائية." ولكن هذا القانون لم يعطِ صلاحية تفسير الدستور للمجلس الدستوري؛ إنما أعطت له هذه الصلاحية من خلال وثيقة الوفاق الوطني في الطائف مما جعل تناقض حولها فيما بعد قد تم ذكر ضمن القانون نفسه أنّ عدد أعضاء المجلس الدستوري 10 (5 يعينهم مجلس النواب و5 يعنيهم مجلس الوزراء). وقد تم حصر المراجعة برئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة و10 من النواب على الأقل ورؤساء الطوائف فيما يتعلق بالممارسات الدينية والأحوال الشخصية. وبذلك قد تم تحديد مهل محددة للطعن مثل مهلة 15 يوم للتقدم بطعن حول قانون معين بعد اصداره في الجريدة الرسمية؛ إن لم يتقدم أحد بطعن يصبح هذا القانون بمنأى عن الطعن بعد مرور هذه المهلة. قد عدد أنطونيوس أبو كسم بعض العوائق والثغرات التي تواجه المجلس الدستوري اللبناني لعل أبرزها أن "مهلة الطعن القصيرة لا تتيح للمواطنين مثلاً التواصل مع 10 نواب لصياغة طعن." والثغرة الأخرى التي تحدث عنها تتجلى في "عوائق إجرائية وبنيوية قد تعيق توسيع صلاحيات المجلس الدستوري لناحية منح حق المراجعة لكل المواطنين." وآخرين تحدثوا عن عوائق سياسية وطائفية تقف أمام عمل المجلس الدستوري اللبناني.

- المحكمة الاتحادية العليا في العراق: تبعاً للمادة الأولى من قانون 30 الصادر في 2005 "تنشأ محكمة تسمى المحكمة الاتحادية العليا ويكون مقرها في بغداد تمارس مهامها شكل مستقل لا سلطان عليها لغير القانون." وهي تتألف من 9 أعضاء بما فيهم الرئيس، وأنيطت بالمحكمة صلاحيات واسعة تتعلق في الفصل في النزاعات بين السلطات الاتحادية والإقليمية والرقابة على دستور القوانين والنظر بالطعون المقدمة إليها والتي تدخل ضمن صلاحياتها. وهذه المحكمة حققت انجازات في بعض القضايا والقرارات، إلاّ أنها تواجه مجموعة من العوائق. حيث يقول محمد عبد الرحيم حاتم " إنّ المعوقات التي تواجه المحاكم والمجالس الدستوريَّة في الأنظمة الدستوريَّة العربية – بصورة عامة ومن ضمنها العراق - عادةً ما تتعلَّق بالجانب التكويني والتنظيمي في إطار النصّ الدستوري، فنجد أنَّ جل مواضع الخلل في هذا التنظيم تتعلق بآلية اختيار الأعضاء أو طرُق المراجعة ومُددها القانونيَّة، إضافة إلى محتوى ومضمون النصّ الدستوري المنظم لسلطة القضاء الدستوري." حيث يعتبر أن النص القانوني الذي صدر حول المحكمة الاتحادية العليا في العراق جاء مقتضب ولم يفصل الصلاحيات. وكذلك طريقة التعيين لأعضاء المحكمة التي تتناقض في الناحية العملية مع النص، حيث يتم التعيين القائم على المحاصصة والتوازن الطائفي. 

مما لا شكَّ فيه أن العدالة الدستورية تمكنت من تحقيق أهدافها في العديد من الدول. حيث ساهمت في تكريس دولة القانون لتأمين المساواة بين مختلف الأفراد والجماعات دون تمييز على أساس عرقي أو ديني أو جنسي. وفي طبيعة الحال إنها نتجت بعد جهود وحلقة من التطور في السياق الديمقراطي ونجاح هذه التجربة واستمراريتها يتوقف على فلسفة النظام ومدى تبني الأسس الديمقراطية. فإلى أي مدى ساهمت العدالة الدستورية في تأمين التوازن بين السلطات؟ وكيف يمكن تعزيزها وتطويرها في الدول العربية والأفريقية؟ 

 

المصادر والمراجع:

 إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، وآخرون، المعجم الوسيط، دار الدعوة، تركيا، 1989.

 محمد خليل باشا، الكافي معجم عربي حديث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، 1999.

زهير شكر، النظرية العامة للقضاء الدستوري، الجزء الأول، دار بلال، لبنان، 2014.

دبوز مريم، مذكرة مقدمة لنيل شهادة درجة ماجستير، دور العدالة الدستورية في بناء دولة القانون، كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، 2014، الجزائر.

أمين عاطف صليبا، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون "دراسة مقارنة"، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2002.

مؤسسة كونراد أديناور، دور القضاء الدستوري في بناء دولة الحقوق في لبنان، المركز العربي لتطوير حكم النزاهة والقانون، لبنان، 2017.

عزيزة الشريف، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1995.

عادل الطبطبائي، الحدود الدستورية بين السلطتين التشريعية والقضائية دراسة مقارنة، مجلس النشر العلمي، الكويت، 2000.

 زهير شكر، النظرية العامة للقضاء الدستوري، الجزء الثاني، دار بلال، لبنات، 2014.

 قانون لبناني رقم 250 الصادر في 14/07/1993 المتضمن إنشاء المجلس الدستوري في الجريدة الرسمية العدد 24، بتاريخ 15/07/1993. 

 قانون عراقي رقم 30 الصادر في 01/01/2003 حول المحكمة الاتحادية العليا.

 محمد عبد الرحيم حاتم، مقال بعنوان: العوائق التي تواجه عمل القضاء الدستوري في العراق وسبل تذليلها، منشور عبر شبكة الأنباء الإخبارية بتاريخ 21/09/2019.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


للتواصل والاستفسار

[email protected]
كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia