ادعمنا

البيروقراطية - Bureaucracy

البيروقراطية "الدواوينية" أو سُلطة المكاتب كما يُسميها البعضُ، هي نِظام إداري تباينت حوله وجهات نظر العلماء والنُقّاد والباحثين في علم الاجتماع والعلوم السياسية، فمنهم من يرى بأنها نمطٌ إداري غيرُ مرغوبٍ فيه ونظامٌ مكتبي يتسمُ بالتعقيد ورتابة الروتين، بل وينظر إليها البعضُ منهم كمرض من أمراض النظام الإداري الحديث وقيدٍ من قيود الإدارة العصرية التي يجب التحرُر منها، بينما يرى فيها آخرون نظاماً إدارياً نموذجياً يقوم على التسلسل الهرمي للسلطة ويستندُ إلى لوائح وقوانين إدارية صارمة تؤدي إلى تنفيذ المهام وإنجازها على الوجه الأكمل، أما وجهات النظر المُعتدلة فترى بأنها سلاحٌ ذو حدين فهي تنظيمٌ إداري مفيدٌ ونافعٌ إذا أحسن الإداريون استخدامه وضار ورتيب إذا أفرطوا فيه، ولِكُلِّ فريقٍ مِن هؤلاء العلماء والنُقّادِ والباحثين مِن الشواهد والمعطياتِ ما يُبرر وجهةَ نظره أو يعززها.

 

مفهوم البيروقراطية:

عند النظر إلى المفهوم اللُغوي أو اللفظي لكلمة البيروقراطية نجد بأنها تتكون من مقطعين: الأول بيرو (bureau)، أي مكتب، والتي كانت تستخدم في بداية القرن الثامن عشر للتعبير عن كلمة مكتب بمعناها العام أي المقرات الإدارية أو أماكن العمل كمكاتب الشركات وغيرها، والمقطع الثاني قراطية (cracy) وهي مشتقة من الأصل الإغريقي كراتُس (κράτος) ومعناها السلطة، والكلمة بمقطعيها تعني قوة المكتب أو سُلطة المكتب، أما المفهوم الاصطلاحي للبيروقراطية فيشير إلى أنها طريقة للتنظيم الإداري لمجموعةٍ من الناس يعملون معاً بناءً على إجراءات تنظيمية موحدة وتسلسل هرمي للصلاحيات والمسؤوليات والسُلطة.

ومن المفاهيم الاصطلاحية التي تُستخدم للتعبير عن البيروقراطية في المعاجم ما يلي:

1- عرفتها الموسوعة البريطانية بأنها: "تركيز السلطة الإدارية في المكاتب والإدارات".

2- عرفها معجم وبستر على أنها: "مجموعة من الموظفين الرسميين" وأنها "الإجراءات الحكومية الرسمية أو الروتين غير المرن".

3- عرفها القاموس الألماني بالتعريف التالي: "القوة والسلطة التي تُمنح للأقسام الحكومية وفروعها لِتُمارسها على المواطنين".

4- عرفها قاموس الأكاديمية الفرنسية بأنها: "القوة والنفوذ اللذان يُمارسهما رؤساء الحكومة وموظفو الهيئات الحكومية".

أما فريتز ماركس فيرى بأن البيروقراطية هي: الشكل أو النمط التنظيمي الذي تستخدمه الحكومة الحديثة لأداء وظائفها العديدة المُتخصصة والمُتضمَنة في النظام الإداري والتي تتجسد في نظام الخدمة المدنية بوضوح، وأنها "اتجاه رسمي يهدف إلى تنفيذ الوظائف المرجوة مع التزام التخلي عن الإنسانية والتمسك بالشكليات دون أدنى اعتبار لما قد ينجم عن هذا الاتجاه من آثار ونتائج".

ويُعرِّف بعضُ المختصين البيروقراطية بأنها: "نمطٌ إداري يتمسك بالشكل دون المضمون ويتسم بالتخلُف الإداري وكُثرة التعقيدات والإهمال والتحيُز".

 

نشأة النظرية البيروقراطية

ظهرت النظرية البيروقراطية في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، على يد عالم الاجتماع الألماني ويبر- Weber "ماكسيميليان كارل إميل ويبر- Maximilian Carl Emil Weber" (21 أبريل 1864– 14 يونيو 1920م) والذي قام بوضع نموذج نظري يقدم مفهوماً مثالياً للنظام الإداري يتفق مع التوجهات التي كانت سائدة في عصره آنذاك، وقد تأثر ويبر بثلاثة عوامل كان لها أثر كبير في رسم ملامح نظريته وتحديد أفكارها، وهذه الثلاثة العوامل هي:

1- التحول المؤسسي الذي شهدته ألمانيا في تلك الفترة: بما أن ويبر مواطن ألماني عاصر التضخم الكبير الذي طرأ على المؤسسات الصناعية؛ فقد رأى بأن التنظيم الإداري الرسمي المُحكم والقائم على قوانين ولوائح صارمة هو الأسلوب الأمثل لزيادة الإنتاج وبالتالي فقد أهمل النواحي الإنسانية.

2- النظام العسكري: حيثُ كان ويبر ضابطاً في الجيش الألماني وقد كان للتنظيم العسكري تأثيرٌ كبير على توجهه الفكري ورؤيته للأمور، ففي العرف العسكري لا يمكن للجيش أن يتحرك إلا وفق أوامر وتعليمات صارمة؛ فاعتقد ويبر أن هذا الأسلوب يمكن أن يُطبق في شتى المجالات الإدارية.

3- إدراك ويبر لجوانب القصور الإنساني: لقد كان ويبر عالم اجتماع؛ وبالتالي فقد كان مُدركاً تماماً لنوازع النفس البشرية وعوامل الضعف الإنساني وعدم إمكانية الاعتماد الكامل على العنصر البشري في اتخاذ كل القرارات بتجرد وحيادية؛ لذا فقد اعتقد ويبر بأن القواعد التنظيمية الصارمة هي الضامن الوحيد لعدم تدخل المصالح الشخصية في رسم السياسات الإدارية واتخاذ قراراتها.

وبناءً على ما تقدم نجد بأن ويبر استلهم نظريته من واقع الحياة في عصره وعززها بخبراته الشخصية فوضع نموذجه التنظيمي معتقداً بأنهُ سيلائم كل البيئات ومختلف المجالات الإدارية، وقد حدد ويبر مهام وصلاحيات وأدوار المرؤوسين بدقة ضمن لوائح وإجراءات وقواعد مكتوبة، وبذلك تتحكم في سلوك الجماعة البيروقراطية مجموعة من الضوابط المُقننة والجامدة.

وكانت وجهة نظر ويبر إلى النشاط المؤسسي تقوم على أساس من العلاقات السلطوية، وقد وصف النظرية البيروقراطية بأنها تتضمن تخصص عمل، وأنها تسلسل هرمي محدد للسلطة، ومجموعة من الإجراءات والقواعد الرسمية، وتفاعل موضوعي لا يقوم على العلاقات الإنسانية والشخصية، كما أن اختيار الموظفين والترقيات الوظيفية تقوم على مبدأ الاستحقاق.

 

الأسس التي تقوم عليها النظرية البيروقراطية

لو تطرقنا إلى الأسس التي بنى عليها العالم ويبر نظريته لوجدنا بأنه ركز على عناصر هامة وأساسية لكي تكون نظريتهُ ناجحةً بكل المقاييس، وقابلة للتطبيق في أي تنظيم إداري، ومن تلك العناصر مايلي:

1- الخبرة والمهارة والتأهيل هي أساس اختيار القائد.

2- وجود إجراءات وخطوات محددة ومنسقة مسبقاً.

3- الاختيار الأمثل  للمرؤوسين الذين سينفذون هذه الخطوات ويطبقونها على الوجه الأكمل أثناء أدائهم  للعمل.

4- مبدأ أن لا وقت في العمل إلا للعمل ذاته.

 

خصائص النظرية البيروقراطية

تتصف النظرية البيروقراطية بعدة خصائص منها:

1- التسلسل الهرمي الواضح للسلطة: إذ تتمتع البيروقراطية بسلسلة قيادية قوية؛ حيث يكون لكل عامل مكانه الخاص في السلسلة، ويتمّ الإشراف والرقابة على عمل الجميع من قِبل شخص ما في المُستوى الأعلى للسلطة، إذ تبدأ السلطة من أعلى التسلسل الهرمي ومن ثم تبدأ بالتناقُص عند اقترابها من قاع السلسلة.

2- التخصص: كل شخص في البيروقراطية لديه وظيفة محدّدة للقيام بها، وغالباً ما يُصبح خبيراً فيها.

3- تقسيم العمل: يتم تقسيم كل مهمة في البيروقراطية إلى أجزاء، ويعمل أشخاص مختلفون على أجزاء مختلفة من المهمّة معاً لتنفيذها بشكل كامل.

4- ارتكازها على القواعد الرسمية: تقوم البيروقراطية على مجموعة من القواعد الرسمية تُسمّى إجراءات العمل المعيارية، وهي عبارة عن تعليمات واضحة ومكتوبة لكل وظيفة متخصصة في كل مستوى من مستويات التسلسل الهرمي، ويمكن للعمال الذين يتبعونها التأكد من أنهم على نفس الوتيرة التي يسيرُ عليها زملاؤهم، وبهذا سيؤدّون عملهم بالشكل الصحيح.

5- الأرشفة وحفظ المستندات: يتوجب على الإدارة ذات النظام البيروقراطي أن تقوم بكتابة مُجمل إجراءات العمل وأرشفة وحفظ كل مُستنداته.

6- اعتمادها على المعرفة والمهارة: يعتمد النموذج البيروقراطي في تعيين الموظفين على المعرفة والمهارة، فهو يرى بأن المعرفة والمهارة ضرورتان حتميتان لتحقيق أهداف المؤسسة ونجاح موظفيها.

 

المزايا الإيجابية للنموذج البيروقراطي

البيروقراطية بصفتها أسلوب للتنظيم الاجتماعي لها من المزايا الإيجابية مايميزها عن غيرها، وقد حدد علماء الاجتماع هذه المزايا بما يلي:

1- الرسمية: حيث يتم توزيع المهام وتنظيمها بشكل رسمي وبما يتفق مع أهداف المؤسسة، وهذا يعني توزيع العمل توزيعاً واضحاً ومحدداً.

2- التخصص: استخدام الخبراء والاختصاصيين دون غيرهم في الأمكنة المناسبة لهم، وكذلك تحديد مسؤولية كل منهم عن أداء واجباته بفاعلية، وهذه الدرجة العالية من الاختصاص أصبحت الآن جزءاً أساسياً من الحياة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة للتطور العلمي الذي تشهده المجتمعات.

3- التحديد الدقيق للمهام والصلاحيات:

ففي النظام البيروقراطي كل وظيفة يجب أن تخضع لإشراف سلطة وظيفية أعلى منها، وكل موظف وفق هذا التسلسل الإداري مسؤول أمام رئيسه عن تنفيذ قرارات مرؤوسيه وأعمالهم، كما أنه مسؤول عن قراراته وأعماله، فالرئيس في المؤسسة له سلطة ما دونه من الموظفين، وهذه السلطة محددة بدقة بالأوامر الإدارية.

4- خضوع المهام لمجموعة متناسقة من الأحكام والقرارات تستهدف ضمان أداء جميع الأعمال أداءً متوافقاً ومعدلاً، وهذه المهام تحدد بدقة مسؤولية كل عضو في المسؤولية، كما تحدد العلاقات بين الأعضاء وتنظمها.

5- المسؤولية: حيث يقوم الموظف بأداء مهامه الوظيفية بصفة رسمية لا شخصية؛ إذ أن تصرف الموظف يخضع في النهاية للمصلحة العامة دون أي اعتبارات شخصية، وأن استبعاد المؤثرات والعوامل الشخصية شرط ضروري لفعالية أداء الموظف، ونجاحه في أداء المهام المطلوبة منه رسمياً.

6- الاستقرار الوظيفي: يقوم التوظيف في المؤسسة البيروقراطية على أساس الكفايات العلمية والمهارات الفنية، ويصان الموظف من الطرد التعسفي فالوظيفة وفقاً للنظام البيروقراطي هي وظيفة دائمة، ونظام الترقيات يتم على أساس الأقدمية أو الكفاية أو الاثنين معاً، فهذه الأسس تسهم في تنمية ولاء الموظف لمؤسسته، وتعزيز الروح الجماعية بين أعضاء المؤسسة، وهذا بدوره يسهم في تقوية ارتباط الموظفين بمؤسستهم ويدفعهم إلى بذل جهود كبيرة لصالح المؤسسة.

7- الفاعلية في الأداء: تكون المؤسسة التي تقوم على التنظيم البيروقراطي قادرة على تحقيق أعلى درجة من الفاعلية إدارياً وفنياً.

 

الانتقادات الموجهة للنموذج البيروقراطي

هناك علماء وباحثون كبار قدموا نقداً متفاوت المستوى لنموذج ويبر كأمثال: الفرنسي كروزير، والفيلسوف والاقتصادي الأمريكي أنتوني داونز، وعالم الاجتماع ألفن جولدنر، والاقتصادي روبرت ميرتون.

حيث انتقد الفرنسي كروزير نموذج ويبر بدراسة حديثة لظاهرة نموذج البيروقراطية في فرنسا، اعتمد فيها على بيانات قام بتحصيلها ميدانياً وحللها إحصائياً لمشروعين من المشاريع العامة في فرنسا، وخلص كروزير إلى أن نموذج ويبر للبيروقراطية هو ظاهرة للروتين والتعقيد والجمود في المنظمات الفرنسية، وعرف كروزير هذا الروتين بالحلقة الجهنمية وأوضح أن ذلك يعود للأسباب التالية:

1- عدم شعور الموظفين بالانتماء للمؤسسة وعدم اكتراثهم بالمحافظة على ممتلكات المؤسسة، مما يقود إلى ضياع أموال أو مستندات عامة.

2- عدم إدراك العاملين لأهداف المؤسسة التي وجدت لأجلها.

3- عدم وحدة العاملين، وانعزالهم عن بعضهم البعض بسبب الحد من العلاقات الشخصية بينهم؛ مما يؤدي إلى منافسة شرسة بينهم ينعدم معها العمل الجماعي ويسود فيها الشعور بالأنانية والسعي لتحقيق الأهداف الشخصية.

4- تركيز المسؤوليات وسلطة اتخاذ قرارات المؤسسة في أيدي فئة قليلة توجد في مستويات الإدارة العليا فقط؛ وذلك يؤدي لزيادة آثار الروتين السلبية التي تتجلى بتعامل الموظفين في المستويات الدنيا مع المراجعين والمستفيدين يومياً وتنفيذهم للأعمال الرسمية وتحصيلهم لمعلومات هامة من المستفيدين لا يستفيدون منها بتحسين المؤسسة؛ وذلك بسبب أنهم لا يملكون السلطة للتعامل مع هذه المعلومات الهامة أو اتخاذ القرار بشأنها؛ فتصبح هذه المعلومات المتراكمة بالرغم من أهميتها مجرد معلومات مُهملة.

5- قيام المسؤولين الذين لديهم صلاحية اتخاذ القرار باتخاذ قرارات غير مناسبة بسبب عدم إحاطتهم بالمعلومات الهامة الموجودة لدى الموظفين العاملين في المستويات الدنيا والتي كانت من الممكن أن تُفهمِهم الموقف جيداً لاتخاذ القرار الأنسب.

وبالنسبة لمظاهر التعقيد والجمود في المؤسسة، أوضح كروزير عناصر الضعف التالية في نموذج ويبر للبيروقراطية:

1- عدم رغبة الموظف في تحمل المسؤولية أو اتخاذ قرار بسبب أن ذلك سيؤدي إلى اهتزاز استقرار الموظف وعدم شعوره بالأمان الوظيفي، فهو يعلم بأنهُ حين يفعل ذلك يخالف القواعد والتعليمات؛ ولذلك يترك هذه المخاطر لمن هم في المستويات القيادية العليا.

2- انخفاض إنتاجية العاملين وتدهور روحهم المعنوية بسبب التمسك حرفياً بالقواعد والتعليمات.

3- صعوبة التكيف مع المشاكل والظروف المتغيرة مما يزيد الفجوة بين المؤسسة والمستفيدين منها.

4- زيادة الرقابة على الالتزام بالقواعد والتعليمات المؤسسية مما يزيد الجمود، وبدوره يزيد المشاكل والفجوة مع جمهور المستفيدين.

وقد قام الفيلسوف والاقتصادي الأمريكي أنتوني داونز- Anthony Downs بإجراء دراسة لنموج البيروقراطية الأمريكية ولاحظ فيها ميلاً طبيعياً نحو النمو والاتساع والمحافظة المستميتة على البقاء وضمان الاتساع والنمو والاستقلال، ولكنه يرى أن الأنظمة البيروقراطية قد انحرفت عن النظرية الأساسية لنموذج ويبر المثالي وأخذت تستوعب وتدخل الجانب الإنساني في النموذج وأصبحت تهتم بالعلاقات الشخصية، وأطلق داونز على ذلك مُسمى الاتجاه الحديث للبيروقراطية، حيث أن هذا الميل يمثل من وجهة نظر داونز انحرافاً واضحاً عن النظرية الأساسية لنموذج ويبر للبيروقراطية الذي ينكر وجود التحيزات الشخصية في العمل، ويفصل بشكل تام بين الواجبات الرسمية والمصالح والعلاقات الشخصية، وبناءً على ذلك؛ فقد أوضح داونز عناصر الضعف التالية فيما يخص الرقابة حسب نموذج ويبر البيروقراطي ووضعها كأساس لتطوير نموذجه الذي أسماه البيروقراطية الحديثة:

1- الكثير من موارد وأنشطة المؤسسة لا يتم استغلالها لتحقيق الأهداف المنشودة،  حيث يتم استعمالها في الرقابة والتي من الممكن القيام بها من خلال بعض النظريات الأخرى كالنظرية الإدارية العلمية والعملية.

2- وجود صعوبة بالغة في مراقبة سلوك العاملين مراقبة مثالية.

3- كلما كبرت المؤسسة قلت فاعلية رقابتها.

4- كلما كبر حجم المؤسسة أصبح التنسيق الداخلي أقل، نظراً لظهور طبقات وإدارات جديدة.

5- كلما زادت جهود الرقابة زادت معها جهود الموظفين في إيجاد فجوة للإفلات منها.

6- ازدواجية الرقابة وتعدد أجهزتها يؤدي إلى تقليل فاعلية الرقابة وتداخل أنشطتها وصرف المال العام بعيداً عن تحقيق أهداف المصالح الحكومية.

كما بين داونز في كتابه "داخل البيروقراطية" أن السلوك الإنساني والنفس البشرية أكبر من أن يتم اختزالها في سلوك بيروقراطي مثالي، وأن السلوك الإنساني لا يمكن تحديده أو قياسه أو وضع افتراضات يقينية عليه، ولا يمكن أيضاً وضعه في إطار محدد. وخلص داونز في كتابه إلى أن الانحرافات التي ظهرت في السلوك الإنساني عن السلوك البيروقراطي تمثل أدلة يقينية على فشل نظرية ويبر للنموذج البيروقراطي، وأوضح ذلك في ثلاث فرضيات، وهي كما يلي:

1- يتجه جميع الموظفين إلى تحقيق أهدافهم منطقياً، أي أن هدفهم الحصول على أعلى حد ممكن لمنفعتهم الشخصية.

2- كل موظف لديه دافع كبير لتحقيق مصلحته الشخصية، مما يؤدي إلى ظهور أهداف عديدة معقدة لدى أفرد المنظمة الواحدة.

3- تؤثر الوظائف والعلاقات الاجتماعية في أي منظمة على هيكلها التنظيمي، مما يؤدي إلى ظهور هيكل تنظيمي غير رسمي يتحول لاحقاً إلى تنظيم رسمي هيكلي في المؤسسة.

ويرى عالم الاجتماع الأمريكي ألفن وارد جولدنر- Alvin Ward Gouldner (29 يوليو 1920 – 15 ديسمبر 1980) أن التنظيم المشار إليه في نموذج ويبر يضع نظاماً للرقابة للمحافظة على توازن واستقرار التنظيم، ولكنه يؤدي في النهاية إلى خلل بتوازنه واستقراره بحد ذاته؛ وذلك بسبب أن المستويات العليا في التنظيم البيروقراطي حسب نموذج ويبر ترغب في الرقابة على أعمال وسلوك العاملين، من خلال وضع قواعد وتعليمات وإجراءات عمل فتكون محصلة هذه الرقابة في نموذج ويبر للبيروقراطية ازدياد التوتر والصراع الداخلي في المؤسسة وبالتالي اختلال التوازن التنظيمي والبعد عن الأهداف الحقيقية للمؤسسة، ويرجع ذلك إلى الأسباب التالية:

1- تقليص العلاقات الشخصية بين العاملين في المنظمة إلى الحد الأدنى، بسبب تقسيم العمل.

2- قلة وضوح الفروق بين الإدارات والأقسام، بسبب أن الجميع يخضع لنفس القواعد.

3- قبول السلطة الرسمية للمشرفين بإيجابياتها وسلبياتها بحكم مراكزهم، وذلك يؤدي لاحقاً إلى ظهور نتائج وسلوكيات غير متوقعة وغير مرغوبة، ومن تلك النتائج والسلوكيات غير المتوقعة وغير المرغوبة تقوقع سلوك الأفراد وجموده، مما ينتج عنه الحد من العمل دون محاولة بذل جهد أعلى مما يؤدي إلى انخفاض في الإنجازات الفعلية وقلة الإنتاجية والابتعاد عن تحقيق الأهداف المنشودة للمنظمة.

4- اعتقاد الإدارة العليا للمنظمة بأن فشل المنظمة في تحقيق أهدافها يعود إلى العاملين، مما يؤدي إلى انعدام شعور هؤلاء العاملين بالأمان الوظيفي أو بالولاء فيسعى كل عامل لتحقيق أهدافه الشخصية. أما الاقتصادي الأمريكي روبرت ميرتون- Robert C. Merton والذي كان من أوائل من تنبهوا لنقاط الضعف في نموذج ويبر المثالي وعملوا على تطويره، فقد وجه له الانتقادات التالية:

1- استقرار السلوك البيروقراطي للفرد يؤدي إلى جمود التنظيم، حيث يأتي الجمود بسبب الالتزام التام للعاملين في المؤسسة بالأنظمة والتعليمات وكثرة الروتين وزيادة الرقابة والتفتيش وضياع المال العام على هذه الرقابة بدلاً من أن يصب باتجاه تحقيق أهداف المنظمة التي أنشئت من أجلها.

2- التركيز على النظام والتعليمات والقواعد قد يؤدي إلى تغلب الوسائل على الغايات، أي أن التزام الموظف بهذه الأنظمة والتعليمات والقواعد سيصبح تدريجياً هو الهدف لهذا الموظف مع مرور الوقت وسينسى الموظف الهدف الأساسي للمنظمة والداعي لوجودها من الأساس.

3- تعميم المواقف التي يتم التصرف فيها بشكل مناسب والسلوكيات الجيدة على المواقف والسلوكيات التي لا تقبل استعمال نفس التعميم، وهذا غير منطقي في نموذج ويبر، حيث توجد العديد من المتغيرات البيئية والمكانية التي لا يأخذها نموذج ويبر بعين الاعتبار عند تعميم تلك المواقف أو السلوكيات.

4- أدى نموذج ويبر إلى التقليل من وجود العلاقات الشخصية بين أعضاء الفريق الواحد في نفس المؤسسة أو حتى انعدامه؛ وذلك بسبب أن كل فرد له تعليمات خاصة، والعمل مقسم بناءً على التخصص وبشكل هرمي ومركزي.

 

الطرق التي يمكن اتباعها لتجنب أخطاء النموذج البيروقراطي

1- تحديد الأهداف تحديداً واضحاً، والتأكد من تنسيق الأهداف ببعضها البعض أفقياً وعمودياً.

2- مراعاة القدرة البشرية والجانب الإنساني، ومشاعر الموظفين؛ لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه الاستغناء عن العلاقات الشخصية أثناء العمل، وله قدرة معينة على تحمل ضغط العمل ومدى محدد من المعرفة، حيث لا يمكنه أن يتواجد فيزيائياً في أكثر من مكان في الوقت ذاته.

3- تفويض الصلاحيات واعتماد مبدأ اللامركزية في السلطة واتخاذ القرار.

4- تقليل حجم الوحدة الإدارية بقدر الإمكان.

5- اختيار الرؤساء بطريقه علمية.

6- التقليل من نطاق الإشراف الإداري أو زيادة المرؤوسين.

7- الثقة في الموظفين.

8- إقامة نظام المكافأة والعقاب.

9- إعادة النظر بصورة مُستمرة في مدى تحقيق المنظمة لأهدافها وإجراءاتها المُتَّبعة.

خلاصة القول: البيروقراطية هي مفهوم يستخدم في علم الاجتماع والعلوم السياسية يشير إلى التطبيق الصارم للقوانين في المجتمعات المُستهدفة، فهي أحد أساليب التنظيم الإداري لمجموعةٍ من الأشخاص يعملون معاً، ويعتمد هذا الأسلوب الإداري على الإجراءات الموحدة وتوزيع المهام والمسؤوليات والعلاقات الوظيفية بطريقة تسلسلية هرمية، وقد أصبح هذا النمط الإداري شائعاً، حيث تعتمد الكثير من المؤسسات بقطاعيها العام والخاص في معظم الدول على النموذج البيروقراطي، فهنالك العديد من الأمثلة على البيروقراطية المستخدمة في كثير من البُنى المؤسسية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية: كالحكومات، والقوات المسلحة، والشركات، والمستشفيات، والمحاكم، والمدارس، والجامعات وغيرها.

ومن أهم السمات التي تميز هذا النظام الإداري هي التسلسل الهرمي الدقيق للسلطة، والتقسيم الصارم للعمل، بالإضافة إلى الاعتماد الكلي على تخصص المهام وعدم السماح بالتداخل فيما بينها، كما يتميز هذا الأسلوب الإداري بوجود قوانين وأحكام وإجراءات تطبق بكل حزم وصرامة؛ مما يؤدي إلى إنجاز العمل على الوجه المطلوب، ويضمن للمؤسسة التحقيق التام لكل الأهداف المرسومة، بعيداً عن العلاقات الخاصة والمصالح الشخصية وتأثيرها على منظومة العمل. 

وتتعرض البيروقراطية الإدارية للنقد الدائم، حيث ينظر إليها بعضُ النُقَّادِ كَبُنية إدارية معقدة تتبع إجراءات متعددة تجعل سير العمل فيها بطيئاً، واتخاذ القرار غير مرن، كما يرون بأن هذا النموذج الإداري يقتل الإبداع ويمنع التطور والانفتاح على المستجدات الإدارية التي من شأنها تحسين العمل مما يؤدي مع مرور الوقت إلى التقليل من الكفاءة التشغيلية.

ومع أنّ النموذج الإداري البيروقراطي يبدو أحياناً مُسرفاً وغير فعال إلا أنه يساعد على ضمان أن يعمل آلاف الموظفين معاً بطرقٍ متوافقة من خلال تحديد أدوار الجميع ضمن تسلسل هرمي دقيق، ويضمن للمؤسسة تحقيق أهدافها لا سيما إذا تم الأخذ بعين الاعتبار كل الطرق والوسائل التي من شأنها الحد من الآثار السلبية للنموذج الإداري البيروقراطي.

 

 

المصادر والمراجع:

المنيف إبراهيم، تطور الفكر الإداري المعاصر، مجلة المدير، العدد الثالث، 2017م، الرياض المملكة العربية السعودية

محمد ناشد، البيروقراطية مفهومها ومقوماتها ومظاهرها، المنظمة العربية للعلوم الإدارية، العدد51، 1970م، القاهرة الجمهورية العربية المصرية.

درويش عبدالكريم، أصول الإدارة العامة، مكتبة الأنجلو، الطبعة الأولى، 1968م، القاهرة الجمهورية العربية المصرية.

علي محمد، دراسات في علم الاجتماع السياسي، دار الجامعات المصرية، الطبعة الأولى، 1977م، الإسكندرية جمهورية مصر العربية.

فرغلي محمد، البيروقراطية، مجلة الاقتصاد والإدارة، العدد العاشر، 1980، الرياض المملكة العربية السعودية.

محمود عساف، أصول الإدارة، دار النشر العربي، الطبعة الأولى، 1976م، القاهرة الجمهورية العربية المصرية.

شافريتز جي م. هايد، ألبرت ك. باركس، ساندرا ج، مؤلفات كلاسيكية في الإدارة العامة، معهد الإدارة العامة، الطبعة الثانية، 2010م، الرياض المملكة العربية السعودية.

Marx Fritz Morstein,The Administrative State: An Introduction to Bureaucracy, The University of Chicago Press, 1969, Chicago the United States of America.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia