ادعمنا

الحداثة - Modernity

”الحداثة هي ظاهرة في تاريخ الفكر الإنساني“، ارتبطت نظريًا، بعناصر خاصة مُكونة لها، على المستويات؛ الفلسفية، والتاريخية، والمكانية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، كما ارتبطت فترة ظهورها – الحداثة - تاريخيًا بعدة ممارسات وظواهر انسانية، جعلت منها ”حقبة زمنية“ من حقب التاريخ الإنساني، ليتم التأريخ للعصور السابقة لها بحقبة "ماقبل الحداثة"، وبنفس التأريخ الإشارة إلى التي تلتها، بحقبة ”ما بعد الحداثة“.

وفي هذا الصدد، فإن أبرز ما يلازم حقبة "الحداثة" فضلًا عن الأفكار المرتبطة بها كظاهرة فكرية، هو"النقد" الذي تم توجيهه لها كتعبير عن مشروع  تاريخي، خلق  حالة من المركزية الثقافية الأوربية- محل النشأة- ، اتجهت معه أوربا إلى إعلاء شأن ثقافتها ومعارفها وقيمها وكذلك مكاسبها في العلوم والتقنية، ليستشعرها العالم أجمع.

 

التعريف اللغوي، ونشأة المفهوم:

- التعريف اللغوي:

لغويًا، يشتق لفظ "الحداثة" من الفعل الثلاثي "حدث" بمعنى "وقع"، حدث الشيء، ويحدث حدوثًا، فهو محدث وحديث، وأحدث الشيء أوجده، والمحدث هو الجديد من الأشياء وليس له قديم، ويمكن أن يرد في سياق "ما استحدث"، أو ما جد من تطور، وكلمة "حداثي" يوصف بها ما ينسب للعصر الحديث.

ولفظ "الحداثة" هي مقابل "Modernity" من الإنجليزية، و"Modernité" في اللغة الفرنسية، والأصل اللاتيني للكلمة هو "Modernus" والمشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية "Modus" التي تعني مقياس أو حجم أو كمية، ومن الكلمات المشتقة من نفس الجذر "Modo" التي تعني حدث مؤخرًا أو لتوه أو ما كان قريب العهد.

- نشأة المفهوم:

تشير الدراسات أن كلمة "Modernus" اللاتينية ظهرت لأول مرة في آخر القرن الخامس الميلادي، خلال الفترة التي كان يتم الانتقال فيها من العصور الرومانية القديمة، إلى عالم المسيحية الجديد. واعتبر العديد من المعاصرين آنذاك أن الثقافة الرومانية وجهاز الدولة الروماني يُعدا من الماضي، وأصبحت هذه الكلمة منذ ذلك الحين، تستخدم – كما يقول هابرماسJürgen Habermas – بهدف التمييز بين الماضي الروماني والوثني من جهة، والحاضر المسيحي الوليد من جهة أخرى، وهو ما يؤكد عليه - ليوشترواس  Leo Strauss - بقوله أن الحداثة فُهمت منذ البداية في تعارضها مع العصور القديمة. 

- المصطلح:

من التعريفات التي وضعها كل من الدراسات والمفكرين، لمصطلح الحداثة؛ التالي:

ما طرحة المفكر العربي؛ عبد الإله بلقيزيز، أن"الحداثة هي ظاهرة في تاريخ الفكر الإنساني، حملت معنى محدد في وعي من استقر على وصفها "بالحداثة"، بأن ميز ذلك الوعي بين منظومة الحداثة الفكرية، وما سبقها من لحظات فكرية؛ مثل حقبتي عصر الإصلاح وعصر النهضة، واستمر العرف جاريًا على تعيين سماتها بالشكل الذي يخرجها من دائرة الاشتراك في الشبه "بما قبل الحداثة" و"مابعد الحداثة" ". 

ويميز هذا التعريف المنع، أي منع أية ظواهر فكرية لا تنتمى لتلك الحقبة من الدخول في هذا التعريف، ويميزه كذلك وضوح المعنى من خلاله، لكن يعيبه غياب الإيجاز في التوضيح.

وفي تعريف أكثر عمومية، يشير أحد علماء الاجتماع الروس؛ كرافشينكو Sergey A. Kravchenko، في دراسة له أن: "الحداثة هي مرحلة جديدة من التطور الاجتماعي والثقافي للمجتمع".

وبالطبع يتميز هذا التعريف بالإيجاز الشديد، والإشارة إلى البنية أو مجموعة البُنى (الاجتماعية والثقافية)، التي مارس عليها المفهوم وظيفته، إلا أن الإيجاز الشديد قد لا يحقق عنصر وضوح المعاني المتضمنة بالتعريف، لدى القارئ.

موسوعة علم النفس النقدي؛ تشير في تعريف لها أن "الحداثة" - في الاستخدام الشائع -  هي "الحالة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تساعد في التركيز على ما هو بارز/مميز حول المجتمع الغربي"، وتستطرد  في توضيح تعريفها للمفهوم، أنه يتم استخدام مفهوم "الحداثة؛ كتعبير عن حالة العالم، وغالبًا كتعبير بديل للرأسمالية، والتصنيع، والعقلنة، والعلمنة، ومجتمع الإعلام والاتصال، أو غيرها من سمات إيديولوجية أو مؤسسية أخرى يُعتقد أنها تميز المجتمع الغربي، وذلك في مقابل العصور السابقة، أو الحضارات الأخرى الموجودة الأكثر بدائية".

ويتسم هذا التعريف بالوضوح في إبراز الصلة القريبة بين الحالة التي يعنيها المفهوم، وعدد من المفاهيم والظواهر الأخرى المرتبطة به، بينما لا يحقق بشكل كبير صفتي العمومية والتجريد في التعبير.  

بينما يشير محمد سبيلا، في دراسة له أن "الحداثة هي؛ ظهور ملامح المجتمع الحديث بدرجة معينة من التقنية والتفتح والعقلانية، في إطار المسار التاريخي للمجتمعات الإنسانية، وكونيًا؛ هي ظهور المجتمع البرجوازي الغربي الحديث في إطار ما يسمي بالنهضة الغربية التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعيًا تحقق مستوى عال من التطور".

ويميز هذا التعريف بالوضوح في التعبير، بالإضافة إلى الجمع والشمول للعناصر أو الجوانب التي  يُبنى عليها المفهوم؛ الفكرية والواقعية والزمنية، للحداثة.

وتعرف الموسوعة الدولية للجغرافية البشرية؛ أن: "الحداثة تشير إلى مجموعة قوية من العلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية والمكانية، والتي أثرت بشكل أساسي على طبيعة الحياة الاجتماعية، والاقتصاد، واستخدام وتجربة الزمان والمكان، والتي تشمل خصائص مرتبطة بكل هذه العلاقات".

ويميز هذا التعريف إشارته إلى الجوانب الوظيفية للمفهوم، أي التأثير الذي استحدثه على العلاقات القائمة، بالشكل الذي أضفى عليه المفهوم- وظيفة خاصة به مارسها على هو قائم.

 

الحداثة والتاريخ:

من البعد التاريخي، تشير الدراسات أن "الحداثة" كعملية تاريخية، اتسمت بالتدريجية في تكوينها، وصولًا إلى استخدام مفهوم "الحداثة" للإشارة إلى "العصر الحديث"، أو عصر "الأزمنة الجديدة" أو "الأزمنة الحديثة"، وهي مفاهيم  عرفناها مع استخدام هيجل لها.

وتصنف الدراسات المراحل التاريخية للحداثة إلى سبع مراحل:

١- عصر النهضة (القرنان الرابع عشر – القرن السادس عشر).

٢- حركة الإصلاح الديني (القرن السادس عشر - القرن السابع عشر).

٣- الثورة العلمية (القرن السادس عشر - القرن السابع عشر).

٤- عصر التنوير (القرن الثامن عشر).

٥- حرب الاستقلال الأمريكية (1776). 

٦- الثورة الفرنسية (1789).

٧- الثورة الصناعية (أواخر القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر).

وإلى جانب هذه الخلفيات التاريخية، أوردت الدراسات أيضًا تصنيف للحداثة إلى ثلاث مراحل:

 أولاً: الحداثة المُبكرة،  من (1453إلى 1789) من (ميكيافيللي  Niccolò Machiavelli إلى لوك John Locke - في الفلسفة السياسية).

 ثانيًا: الحداثة الكلاسيكية، من (1789 إلى 1914) من خلال (كتابات ديكارت René Descartesإلى راسل Bertrand Russell).

أخيرًا: الحداثة المتأخرة، من (1900 إلى 1989) من قبل المؤلفين المعاصرين مثل هايدجر Martin Heidegger، كارل بوبر Karl Popper،  دريدا Jacques Derrida، فوكو Michel Foucault، هابرماس Jürgen Habermas ، غيدنز Anthony Giddens، بيك  Heinrich Beck، وبومان Zygmunt Bauman. 

فالحداثة "كمفهوم" لم توجد في لحظة تاريخية محددة في أوربا الغربية، وإنما استغرقت عدة قرون حتى بلغت مرحلة النضج، ومن هذه الزاوية التاريخية، تشير الدراسات أن "الحداثة" ليست قرارًا سياسيًا أو نظرية وضعها فيلسوف، وإنما واقع تاريخي وتطور فكري وسياسي واجتماعي وحضاري شامل، بلغت من خلاله المجتمعات الأوربية درجة من التقدم في التاريخ الحديث والمعاصر.

واستمرارًا للتأريخ للحداثة، جادل بعض المفكرين البارزين بأن الحداثة - كمشروع كبير- انتهت في منتصف أو أواخر القرن العشرين، وتلتها حقبة "ما بعد الحداثة".

 

الحداثة والفلسفة:

وعلى مستوى الفكر الإنساني، شهد المجتمع الغربي خلال الحقبة الحداثية، شكل من أشكال التحول العلمي الفريد، الذي قدمه مفكري التنويرالرواد في تفسير العالم الحديث، أو ما عرف بأسم مرحلة التحول من العلم الميتافيزيقي إلى العلم التطبيقي، والتي سُجلت خلاله مناقشات بارزة حول:

- ”العقل والعقلانية“ في كتابات؛ ديكارت René Descartes، وكانط Immanuel Kant، وكيركجارد Søren Kierkegaard، وهايدجر Martin Heidegger، وراسل  Bertrand Russell .

- ”الكرامة الإنسانية والحرية“ في كتابات؛ مونتسكيو Montesquieu، لوك John Locke، نيتشه Friedrich Nietzsche.

- ”المجتمع والدولة والقانون“ في كتابات؛ مكيافيلي Niccolò Machiavelli، وهوبز Thomas Hobbes ولوك John Locke، وروسو Jacque Rousseau.

- ”علم الوجود ونظرية المعرفة“ في كتابات؛ ديكارت René Descartes، وسبينوزا Baruch Spinoza، وكانط ،وهيجل Friedrich Hegel،وشوبنهاور Arthur Schopenhauer ،وسارتر Jean-Paul KSartre ،ورايل Martin Ryle .

- ”علم الأخلاق، والمذاهب الأخلاقية، واللاهوت“ في كتابات؛ ديكارت René Descartes، وسبينوزا Baruch Spinoza، نيتشه Friedrich Nietzsche، وراسل  Bertrand Russell.

- ”العلمانية“  في كتابات؛ مكيافيلي Niccolò Machiavelli، ويبرMax Weber، وفولتير Voltaire، وسبينوزا Baruch Spinoza، ولوك John Locke، وجيفرسون Jefferson، وراسل  Bertrand Russell.

- ”الشك“ في كتابات؛ ديكارت René Descartes، وسبينوزا Baruch Spinoza، وبيركلي George Berkeley، وهيوم David Hume.

- ”العلم والتكنولوجيا والصناعة“ في كتابات؛ كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus ، وكبلر Johannes Kepler  ، وجاليليو Galileo Galilei، وبيكون Francis Bacon ونيوتن Isaac Newton، وداروين Charles Darwin، وماركس karl Marx ، ودوركهايم Émile Durkheim، وهايدجرMartin Heidegger.

- ”الجنسانية البشرية“ في كتابات؛ فرويد Sigmund Freud وولستونكرافت Mary Wollstonecraft، وبوفوارSimone de Beauvoir.

فخلال تلك الحقبة، كان لإسهامات بعض العلماء تأثيرات كاسحة على "نظرية المعرفة البشرية" بأكملها، فقد ارتبط مشروع الحداثة بشكل عام على المستويات الفكرية والفلسفية، بالعقلانية والتخلص من الأسطورة، والإعلاء من شأن الذات الإنسانية وقدراتها العقلية، وعبر عن ذلك في اختصار أحد مفكري الحقبة، عالم الاجتماعي الأمريكي هربرت ميد George Herbert Mead كالتالي؛ "من واجبنا أن نتجه نحو الفكر والعقل وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري". 

وبمزيد من الاستطراد يعبر هارفي David Harvey ويرى أن الحداثة، "تقوم على فكرة تراكم المعرفة الذي وفره أفراد كُثر، عملوا على نحو خلاق وحرَ من أجل تحرير البشرية وإغناء حياتهم اليومية معًا. لقد جلبت السيطرة العلمية على الطبيعة الوعد بالتخلص من الندرة والحاجة وتعسف الطبيعة الأعمى إلى الأبد. ولبى التخطيط العقلاني للتنظيم الاجتماعي ولأنماط التفكير، الوعد بالتحرر من لاعقلانية الخرافة، والدين والأسطورة، ومن الأستخدام المتعسف للسلطة، والانعتاق كذلك من تسلط الجانب المظلم داخل طبيعتنا البشرية، عبر مشروع كهذا، وعبره فقط، يمكن أن تتحقق الخصائص الكلية الثابتة والدائمة لكل البشر باعتبارهم بشر". 

 

الحداثة وعلم الاجتماع:

ويعبر هابرماس Jürgen Habermas ، أن الحداثة على المستوى الاجتماعي، هي عملية الانتقال من النظام الاجتماعي التقليدي/ الإقطاعي، إلى النظام الاجتماعي الرأسمالي، في إطار المشروع الكبيرحول التصنيع والعلمنة والعقلنة. ويؤكد أوجست كونت Auguste Comte أن الحداثة بدأت حينما بدأ الاعتماد على الوضعية كأساس للبحث العلمي في دراسة المجتمعات. 

- فعلى مستوى النظام الاجتماعي؛ نشأت في كنف الحداثة نظمًا اجتماعيةً خاصة، ردًا على تعليم التنوير، وكذلك كإنعكاس للتتابعات الاجتماعية التي نتجت عن الرأسمالية والتصنيع، حيث أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات والتقسيم العقلاني للعمل الصناعي، أبعاد التغير المستمر وتفكك العادات والثقافة التقليدية، على مستوى الحياة الاجتماعية.

 كما أن بروز مظاهر المجتمع الحديث، كالتمركز الحضري وتطور وسائل الاتصال والإعلام بشكل هائل، تشكل بالتزامن معها، ممارسات اجتماعية ونمط حياة يتسم بالتغير والتجديد والتصور المثالي من ناحية، ويقوم على الذاتية والقلق والتوتر والأزمة وعدم الاستقرار من ناحية أخرى.

فضلًا عن ما تبع التقسيم الاجتماعي للعمل، من انقسامات سياسية عميقة عبرت عنها الصراعات الاجتماعية التي توالت عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، ليضفي كل ذلك في النهاية صورة خاصة على النظم الاجتماعية في حقبة الحداثة.

- وعلى مستوى دراسة المجتمعات؛ وفي المرحلة الكلاسيكية للحداثة، اخترع أوجست كونت مصطلح "الوضعية positivism" كوسيلة لدراسة المجتمع علميًا، للحصول على المعرفة الموضوعية، حيث صنف كونت التاريخ الكامل ل"نظرية المعرفة البشرية" إلى ثلاث مراحل كالتالي: (1) اللاهوتية – وهي المرحلة التي شهدت أن مكان الفرد في المجتمع، و قيود المجتمع عليه، يتم تحديدها من خلال الإله، (2) الميتافيزيقي – وهي امتداد المرحلة اللاهوتية، حيث حاول الناس كثيرًا الاعتقاد بأن الله كائن أو قوة مجردة تعمل على توجيه وتحديد الأحداث في العالم، (3) الوضعية – أو المعروفة بالمرحلة العلمية التي تعبر عن التفسير العلمي القائم على الملاحظة والتجربة والمقارنة, فبالنسبة لكونت ، بدأت الحداثة بمرحلة الوضعية، بينما عملت الرأسمالية كقوة رئيسية للنظام الاجتماعي.

وبهذه المعاني، فإن السياق التي أخذ فيه المجتمع الحديث يعبرعن ذاته كقيمة، ونموذج ومرجع ثقافي وأخلاقي متعالي، ارتفق مع كل ذلك تناقضات واختلافات بنيوية، أصبحت إلى جانب المنجزات الحداثية، موضوعات تؤرخ لظهور الحداثة تاريخيًا.

 

الحداثة والفلسفة السياسية:

وفقًا لليشتراوس Leo Strauss، التعديل الأساسي على الفلسفة السياسية المرتبطة بحقبة "ما قبل الحداثة" التي عاصرها سقراط Socrates ، وأفلاطون Plato، وأرسطو Aristotle، والذي قدمه فلاسفة العصر الحديث، هو الذي يشير إلى العلاقة بين الحداثة والفلسفة السياسية. 

وتشير الدراسات إلى العديد من هؤلاء المساهمين، منهم؛ مكيافيلي Niccolò Machiavelli، وهوبز Thomas Hobbes، وروسو Jacque Rousseau، لوك John Locke، ديكارت René Descartes ، وسبينوزا Baruch Spinoza، كانط  Immanuel Kant، هيجل Hegel George، شوبنهاورArthur Schopenhauer، كيركيغارد Søren Kierkegaard، نيتشه Friedrich Nietzsche، راسل Bertrand Russell، هايدجرMartin Heidegger، بوبر Karl Popper، فوكو Michel Foucault، دريدا Jacques Derrida ...،  والذين ارتبط بعضهم بتطوير مشروع الحداثة على أساس التأملات المعرفية والوجودية الغربية، وظهر البعض كناقد لكلا البعدين، ومن أبرز ملامح الفلسفة السياسية والعملية السياسية بالحقبة الحداثية:

- الذاتية والحرية:

- وجوديًا؛  بدأت تجليات الحداثة السياسية في الظهور، مع عدد من المظاهر السياسية التي مثلت تحولات شهدتها أوربا تاريخيًا، كإطلاق الإعلانات والمواثيق والعرائض الحقوقية التي تصب في الاعتراف بحقوق الأفراد، بداية من "الماجنا كارتا Magna Carta " 1215،  وصولًا إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1798م، والتي كرست كلها لمبدأ الذاتية في المجال السياسي، الذي لم يعد محصورًا بحقوق فئة أو فرد ذو امتياز اجتماعي، بل حقوق الإنسان كونيًا، كما أنها لا تستمد من مرجعية دينية، بل تتولد عن إرادة إنسانية حرة.

 كل هذه الحقوق اُعتبرت مؤشرات قوية على ظهور الفرد كذات مستقلة في وجودها عن الدولة، فلم يعد الفرد مثلما كان بالعصور الوسطى يدور في فلك الدولة أو مجرد تابع لها، بل أصبح الفرد كيانًا مقابلًا للدولة.

- فكريًا؛ واربتطت بهذه الظواهر الوجودية مناقشات فكرية، كالتي جاءت في مناقشات روسو Rousseau المرتبطة بمسألة "الحرية" والسمات الحديثة "للدولة والمجتمع والقانون"، حينما جادل بأن الإنسان في كل مكان مقيد بالسلاسل، وعليه، لا يستطيع أن يجد حريته في أي مجتمع إلا بالعودة من المجتمع - مهما كان جيدًا وشرعًا - إلى "الطبيعة"، باعتبار أن الإنسان ولد حراًوترى من الدراسات أن أفكار "العقد الاجتماعي"، و"الحق الطبيعي"، في تلك الحقبة هي التأثير الذي فرضه الوجود على منهج ومضمون التفكير، وقوىّ من ذلك الاعتبار، انطلاق مفكري تلك الحقبة في نقد الأوضاع السياسية القائمة بشكل نقدي وثوري، والمطالبة بالقطيعة مع الفكرما قبل الحديث.

 

العلمانية والمثالية:

- فكريًا؛ ومن أبرز المطالبات بالقطيعة مع فكر ما قبل الحداثة، ما طالب به بشدة، " مكيافيلي Niccolò Machiavelli"، بفصل الكنيسة عن الدولة، و وتوجيهه إلى الاهتمام بالحقيقة الواقعية والعملية، بدلاً من مثالية الفلسفة السياسية التقليدية، وإعلانه رفض التقليد اللاهوتي بأكمله، فالسياسة لدية هي عمل منزوع "القيمة"، فالأخلاق والقيم الدينية ليس لها مكانة في عالم السياسة، ومن هنا تتجرد السياسة لدي ميكافيللي من أي تبرير لاهوتي، ويصبح بالإمكان إخضاعها للتحليل العلمي والنقدي والموضوعي.

- وجوديًا؛ وتجسد ذلك سياسيًا في بزوغ "الدولة القومية"، والتي تنوعت أشكال الحكم داخلها، وإن ساد اتجاه عام منطلق من نظريات العقد الاجتماعي إلى تعميم الحكم الديموقراطي، الذي يعمل على إزاحة الأشكال القديمة لشرعية السلطة، مثل الشرعية الدينية والزعامة.

ومن هنا اُعتبرت "القومية" نشوءًا حداثيًا اتركز على الروابط غير التقليدية، فتقدمت روابط مثل؛ الجنس والتراث والمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، داخل المجتمعات، عن روابط الدين و المذهب بين الأمم، لتصبح القومية أهم ظواهر الحداثة وأجلى معالمها. ولم يكن هذا النشوء سهلًا أو سريعًا بالطبع، بل اقتضى صراعات عنيفة وممتدة بين الدول الناشئة والسلطات الكنسية التي بسطت زعامتها وحكمها خلال القرون الوسطى السابقة.

 

نقد الحداثة:

- من الداخل:

الترويج لحقبة جديدة تتجاوز الحداثة (ما بعد الحداثة Post- Modernity):

تشكلت مجموعة من الانتقادات المنهاجية، وجهت إلى مفهوم "الحداثة"، والتي شكلت في مجموعها، أرضية لظهور مفهوم "ما بعد الحداثة Post-Modernity"، والذي أخذ صورة تغذيها روح فكرية نقدية، فدفعت هذه الانتقادات الباحثين إلى الاعتقاد بأن "الإنسانية" تحت تأثير الاختناق الحضاري، خرجت من مرحلة "الحداثة"، وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها "ما بعد الحداثة"، ويقدر مجموعة باحثين أن هذه المرحلة بدأت تاريخيًا مع نهاية ستينات القرن العشرين، وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم.

وبرز في تاريخ الأفكار الغربية، تيارات فكرية فلسفية وعملية، تمثلت في "البنيوية  Structuralism" و"التفكيكية Deconstruction"، و"مابعد البنيوية post-structuralism"، ودعت هذه التيارات إلى نقد الحداثة وتفكيك عقلانيتها، واتهمت "الحداثة الغربية" ومعها "العقل" بالإفلاس. 

وتميزت هذه التيارات بالابتعاد عن النماذج الكبرى والتعميمات الواسعة، فلم يعد هدفها تقديم مذاهب فلسفية كبرى، بينما اتجهت إلى صياغة مباديء جديدة ليست مجمعة في نظرية عامة، بل متناثرة، فهذه التيارات لا تؤمن بالنظريات العامة،  بل هي مع التفكيك، أي تفكيك الأشياء والأفكار...إلخ. وقد نعتت هذه التيارات بأنها تمثل "ما بعد الحداثة post-modernity". 

- من الخارج:

إذا ركزنا على منطقتنا العربية، فتشير الدراسات العربية، أن النظرة العربية إلى"الحداثة" انشطرت في الأغلب  إلى تيارين فكريين: أحدهما مؤيد؛ دعا إلى الأخذ بالشروط التاريخية والمقدمات الفلسفية التي قامت عليها الحداثة الغربية، لضرورة دخول المجتمعات العربية إلى واللحاق بالأزمنة الحداثية.

 وتيار فكري آخر نقدي؛ نادى بضروة الفصل بين روح الحداثة وتطبيقاتها، عند التعامل معها، وذلك بوصفها تجربة تاريخية خاصة بالمجتمعات الغربية دون غيرها، ودعا كذلك إلى طرح بديل منها، نظرًا إلى استحالة الاستنساخ الكامل للتجارب الحداثية إلى المجتمعات العربية.

مثال؛ إشارة إلى بعض من نقد الدكتور؛ عبد الوهاب المسيري للحداثة: (إشكالية التحيُّز للحداثة الغربيّة)

لقد استخدم المسيري في نقد الحضارة الغربية على مستويات أبعادها المعرفية والوجودية، مصطلح "فقه التحيز"،  مشيرًا أن كثيرين يروا أن القيَم الغربية هي قيَم عالمية، ويتبنّونها دون إدراك منهم لخصوصيّتها الغربية، سواء أكان هذا التبني بوعي أم من دون وعي. مستخدمًا كلمة "فقه" بدلاً من "علم"، لأنها تعكس في رأيه - حالة إنسانية يتبنى فيها العقل الإنساني موقف معين مع ما يقابله ويتفاعل معه، وذلك على عكس "العلم"، التي يؤكد على جوانب الدقة والحيادية.

واستهدف من ذلك كله رؤية المعرفة الغربية "كنموذج معرفي غربي"، وباعتبار هذا النموذج أحد التشكيلات الحضارية الإنسانية، لكن دون أن يكون التشكيل الوحيد، ومن هنا يكون التعامل معه دون أن نقبله كله ولا أن نرفضه كله، بل ندرسه كتشكيل حضاري إنساني له سلبيات وإيجابيات، دون أن نستهدف من نظرتنا هذه بالطبع التقليل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي، ولا إلى أن نحمله مسؤولية كل ما حدث لنا من مصائب.

ومن الأسس كذلك التي اعتمد عليها تقييم المسيري للنموذج الحداثي الغربي، توضيح نقائص "النموذج المعرفي الغربي"، بما يساعد برأيه، على التحرر من قبضته المهيمِنة، فهو يعتبره نموذجًا معرفيًا مُعاديًا للإنسان، يتعامل معه باعتباره شيئاً مادياً، باعتبار أن أهم خصائص الحداثة الغربية تتلخص في أن "المادة" كأساس الفكر ومصدر المعنى والقيمة.

ويشير أن أبرز التحيز؛ التحيز للتقدم المادي، بعدما أصبح مفهوم "التقدم" هدف الناس كلّهم، ليصبح قانوناً عاماً طبيعياً، وباعتبار أن الغرب بات يعتبر قمة التقدم، يؤدي ذلك إلى مسلمة تفوق الغرب و عالميته، فضلاً عن طغيان وأولوية "معيارية النموذج المعرفي الغربي" الذي غدا نموذجاً قياسيّاً للبشرية جمعاء، ومن خلال هذه الحداثة الغربية، يتم النظر إلى الغرب على أنه مركز الكون ولا معنى للإنسانية من دونه، في إطار منظومة ثُنائية للإنسان والطبيعة، حيث يكون "الإنسان المتأله"، أي الذي يجعل نفسه مركز الكون والطبيعة.

ويلفت المسيري أنظارنا وانتباهنا إلى حقيقة مهمة، وهي أنّ نقد الحضارة الغربية لا يهدف إلى الفضح والانتقاص، ولكنه يهدف إلى الفهم والاستيعاب وعزل ما هو خاص وغربي عما يصلح لأن يكون عاماً وعالمياً.

وبالطبع فإن كتابات رواد هذه الاتجاهات، بل واتجاهات أخرى عديدة سواها، حبلى بالطرح النقدي "للحداثة"، إلا أن أطروحات "ما بعد الحداثة post -Modernity" والأطروحات العربية هي الأكثر أهمية إلى دوائرنا المعرفية القائمة.

 

المصادر والمراجع:

أيمن سليمان السعد، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراة بعنوان: مفهوم الحداثة الغربية والحداثة العربية: دراسة تحليلية مقارنة لهابرماس والجابري، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2014.

عبد الحليم مهورباشة، الحداثة الغربية وأنماط الوعي بها في الفكر العربي المعاصر: دراسة مقارنة بين عبد الله العروي وعبد الرحمن طه، المركز العربي للدراسات والأبحاث: دورية تبين، العدد 23/6، 2018.

عماد إبراهيم عبد الرازق، مفهوم الحداثة ونقدها عند عبد الوهّاب المسيري، موقع أفق، تاريخ الدخول 4 يناير 2021. 

لورد بطرس أنطون حبش، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراة بعنوان: الأبعاد السياسية لمفهوم القوة في خطاب ما بعد الحداثة: مقارنة بين أفكار كل من هابرماس وفوكو، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2007.

D. Linehan, Modernity,International Encyclopedia of Human Geography, access date 5 January 2021.

Lipon Kumar Mondal, Modernity in Philosophy and Sociology: An Appraisal With Special Reference To Bangladesh, Philosophy and Progress journal, 2012.

Madsen O.J., Modernity, In: Teo T. (eds) Encyclopedia of Critical Psychology, New York; Springer, access date 6 January 2021.

Kravchenko S.A., Modernity: the analysis of theoretical approaches , S.A. Kravchenko: Sociology: History,Theory, and Practices, Volume 9, Moscow-Budapest: Institute of Sociopolitical Research, Russian Academy of Science, 2008.

Sharon L. Snyder, Modernity, Britannica, access date 5 January 2021.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia