ادعمنا

المقاطعة - Boycott

 

ضمن إطار العلاقات الدوليّة والأحداث التي تنعكس على مختلف الجهات الفاعلة في النظام العالمي، تُستخدم العديد من الوسائل بغية التأثير بسلوك كل طرف. قد يكون بعضها عسكري، وإنّما الطرق الأخرى قد تكون وسائل ضغط دون سلاح وبالتالي فهي غير عنيفة وإنّما تكون أداة للضغط على الجهات المستهدفة وحثّها على تغيير سلوكها أو التنديد بتصرفاتها. وغالبًا ما يندرج ذلك في سياق المكافأة لتشجيع جهة ما على الإبقاء على سلوكها أو تعديله بما يتلاءم مع مصالح الطرف الآخر كتقديم المزايا أو الدعم، أو قد يكون في سياق العقاب للضغط على طرف ما بسبب سلوك غير مقبول بالنسبة للطرف الآخر وكذلك التنديد بتصرفاتها. ومن بين الأدوات التي تُستخدم ضمن إطار العقاب هي المقاطعة، فما المقصود بها؟ وما هي الآليّة التي تقوم عليها وإلى أي مدى لها فعاليّة؟ 

 

تعريف المقاطعة مُعجميًّا

تُعرف المقاطعة تبعًا لقاموس بنغوين للعلاقات الدوليّة بأنّها: "تتضمّن رفضًا منهجيًّا للدخول في علاقات اجتماعيّة أو سياسيّة أو عسكريّة مع دولة ما أو مجموعة من الدول وذلك بغية المعاقبة أو الإجبار على الانصياع لسلوك معيّن. وتطبّق المقاطعة في أكثر الأوقات في نطاق العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة، حيث تتم مقاطعة السلع والخدمات التي تنتجها جهة معيّنة مُستهدفة." كما أنّ يُعرّف المعجم السياسي المقاطعة على أنّها: "وسيلة من وسائل الضغط الجماعي تتبع تعبيراً عن السخط وطلباً لتغيير أمر معين أو عقوبة لارتكاب فعل ما، وتكون المقاطعة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهي إبراز لروح السخط وعدم الرضا." بالإضافة إلى ذلك يشير قاموس كامبردج إلى تعريف المقاطعة كالتالي: "رفض شراء منتج أو المشاركة في نشاط كوسيلة للتعبير عن رفض قوي."

 

مفهوم المقاطعة

يُشير هاري ولنتون ليدلر- Harry Wellington Laidler إلى أنّ المقاطعة بمثابة "جهد منظم للانسحاب وحث الآخرين على الانسحاب من العلاقات الاجتماعية أو التجارية مع الآخر." إذ يعتبر ليدلر أنّ هذا المفهوم طُبّق منذ القدم حيث كان يُعتبر للتعبير عن الغضب وعدم الرضا عن الطرف الآخر. كما أنّ يُعرّف ليو ولمان- Leo Wolman على أنّها "مزيج من تعليق التعامل مع طرف آخر، وإقناع الآخرين أو إكراههم على تعليق التعاملات، وذلك لإجبار هذا الطرف على الامتثال لبعض الطلبات، أو معاقبته على عدم امتثاله في الماضي." فعلى الرغم من أنّه قد عرّفها انطلاقًا من النزاعات التي تنشأ بين التعاملات العماليّة إلّا أنّ هذا التعريف هو في صلب مفهوم المقاطعة من خلال الهدف المشترك وهو إجبار الطرف الآخر من خلال الامتناع عن التعامل معه ليقوم بما يريد الطرف الأوّل.

بالإضافة إلى ذلك يُعرّف عرابي عبد الحي عرابي المقاطعة على أنّها: تُعد تدبيرًا جزئيًّا ضد الدول التي ترتكب عدوانًا ما يخلّ بالسلم الدولي، أو ضد الدول التي تعتبر جزءًا من أدوات تهديد الأمن العام للإقليم أو العالم، أو أداة ضغط لجهة من الدول أو الشعوب ضد دولة أو دول أخرى." وبالتالي يكون قد حدّدها كأداة للعقاب في حال هدّدت دولة ما السلم الدولي أو سلم دولة ما.

 

أصل تسمية المقاطعة

تعود تسمية المقاطعة - Boycott إلى العام 1880 وهي مشتقة من اسم الإنكليزي تشارلز بويكات- Charles Boycott . حيث كان "وكيل المزرعة الإنجليزي في أيرلندا هو الكابتن تشارلز بويكوت الذي استخدم طريقة تحصيل الإيجارات ذات الأسعار المرتفعة في عام 1880. وقد تسببت هذه الطريقة في الغضب وعدم الرضا بين المجتمع الأيرلندي، ونتيجة لذلك، اتخذوا خطوات ضد جني ثمار عملهم." أي أنّ عندما رفع تشارلز قيمة إيجارات الأراضي، رفض الايرلنديون هذه الزيادة، ممّا دفع تشارلز إلى طردهم من الأراضي. وبالتالي كان ردّهم أنّهم قاطعوا تشارلز ورفضوا التعامل معه، وبعد هذا الضغط انهزم تشارلز وكانت هذه المقاطعة لصالح الايرلنديين. وقد كان هذا الرد غير العنيف "المقاطعة" عن طريق اقتراح رئيس رابطة الأراضي تشارلز بارنيل- Charles Parnell الذي اعتبر أنّ هذا الرد هو الأمثل لتجنّب أي تواصل مع من رفض مطلبهم بتخفيض الإيجارات.

 

أهداف المقاطعة 

تتعدّد أهداف المقاطعة تبعًا لكل حالة على حدة، أي أنّ لكلٍّ منها أسباب وظروف وجهات تختلف عن الأخرى وكذلك مستويات وأنواع متنوّعة كما سيتضح لاحقًا. إلّا أنّها بشكل عام تهدف إلى تحقيق ما يلي:

- الضغط على جهة معيّنة من أجل دفعها أو إرغامها على الاستجابة لمطالب الجهة الأخرى التي تفرض المقاطعة. فقد تكون مطالبها مرتبطة بتغيير سياسة معيّنة أو موقف حيال قضيّة معيّنة، أو قد تكون متعلّقة برفض هذه الجهة لعدوان أو أعمال عنفيّة تُمارسها الجهة الثانية، وبالتالي إنّها أداة تهدف للتعبير عن المعارضة والعقاب. كما قد يتخذها المواطنون كوسيلة للاعتراض على ظروف معينة تؤثّر سلبًا على حياتهم كغلاء الأسعار ومن النماذج على ذلك "تونس" في العام 2019، إذ "تحت شعار 'قاطع الغلاء تعيش بالقدا' (جيدًا)، أطلق تونسيون حملة لمقاطعة ما يسمونه "الغلاء الفاحش" نتيجة لفشل الحكومة في مقاومة الاحتكار."

- الدفاع عن النفس ضد اعتداءات معيّنة تضر بالجهة التي تفرض المقاطعة، فإنّها تعتبر وسيلة سلميّة للدفع نحو إيقاف الجهة المعتدية عن الأعمال التي تقوم بها. وبذلك تلجأ إلى إيقاف تعاملها معها للتعبير عن الاحتجاج.

- إلحاق الضرر بالجهة التي تُفرض عليها المقاطعة وذلك لرفع خسائرها، فتعمد الجهة الفارضة إلى استخدام الوسائل التي تُساعدها في تحقيق ذلك، ممّا يحقّق لها أهدافها وبالتالي يؤدي إلى الرضوخ لما تريد.

- اتخاذ المقاطعة سياسة ضد الجهة المستهدفة وكذلك منع التعامل معها ومُعاقبة من يتعامل معها. فإنّها قد تكون "أوليّة حيث تعتمد الجهة الفارضة للمقاطعة سياسات موجهة مباشرة ضدّ الجهة المستهدفة، أو قد تكون ثانوية حيث تقوم الجهة الفارضة بمعاقبة الذين يقيمون اتصالًا أو يتعاملون مع الجهة المستهدفة."

- التأثير على استقرار الجهة التي تُفرض عليها المقاطعة، فعلى سبيل المثال إذا كانت تُفرض المقاطعة على شركات فيكون الهدف منها التأثير على استمراريتها والدفع نحو إلحاق خسائر بها وحتّى الوصول إلى درجة إغلاقها. كما أنّ إذا كانت حكومة فيكون الهدف ضرب استقرارها وإضعافها، وكذلك يكون الأمر بالنسبة للأفراد حيث يكون الهدف الحد من تحركاتهم وتأثيرهم.

 

الجهات الداعية للمقاطعة

تتنوّع الجهات التي تقوم بالدعوة لعمليّة المقاطعة تبعًا للظروف التي تنشأ في إطارها ويمكن تلخيصها بالجهات الحكوميّة والجهات الدوليّة والجهات الشعبيّة. فالجهات الحكوميّة تُعد رسميّة أي تفرضها الدولة بأجهزتها الرسميّة وهي عندما تفرض حكومة دول ما مقاطعة دولة أخرى، فبالتالي تحظر على شركاتها سواء العامة أو الخاصة التعامل مع شركات الدولة المقاطعة. فإنّها تمنع إقامة علاقات بينهما تبعًا لنوع المقاطعة التي تفرضها. أمّا الجهات الدوليّة التي تدعي للمقاطعة هي تلك التي تفرضها المنظّمات والجهات الدوليّة، مثل التي تقرّرها منظّمة دوليّة إذ "تتولّى فرضها استنادًا إلى السلطة التي تستمدها من ميثاقها، كجزء يُفرض على الدولة التي انتهكت الميثاق."بينما الجهات الشعبيّة التي تفرض المقاطعة هي تلك التي تنطلق من الشعب أي ليست رسميّة، فهي "مقاطعة غير حكومية يفرضها ويتولى تطبيقها أفراد أو هيئات غير رسمية أو مؤسسات من المجتمع المدني، بدافع من عواطفهم الدينية أو حماستهم لمبدأ ما، فيقررون إيقاف التعامل بالبضائع والمنتجات المستوردة من دولة معينة وإيقاف التصدير إليها والامتناع عن التعامل مع رعاياها".

 

أنواع المقاطعة

لا تقتصر المقاطعة على نوعها الاقتصادي وإنّما هناك أنواع مختلفة تُعتمد تبعًا للسياق والغرض. فكما اتضح من خلال الجهات الداعية للمقاطعة؛ هناك مقاطعة رسميّة ومقاطعة دوليّة ومقاطعة شعبيّة. ويُمكن التمييز بين أنواعها عبر المجال المستهدف تبعًا للتالي:

- المقاطعة السياسيّة: تتنوّع أساليب المقاطعة السياسيّة التي تتخذها جهة ما للتعبير عن الرفض والرغبة في التأثير في الطرف الآخر. فقد تكون عن طريق مقاطعة الانتخابات وهي الوسيلة التي يعمد إليها جماعة من الشعب للتعبير عن الاحتجاج على النظام السياسي وعدم قبول أي من المرشحين المتاحين، وبالتالي يعمدون إلى مقاطعتها للتعبير عن الامتناع عن المشاركة بها. وكذلك قد يكون للمقاطعة السياسية شكل آخر يرتبط بالامتناع عن حضور فعاليّة معيّنة تُعدّها جهة سياسيّة معيّنة سواء محليًّا أو دوليًّا. وكذلك قد تكون أوسع من ذلك كالمقاطعة الدبلوماسيّة وعدم الاعتراف بحكومة دولة ما وقطع العلاقات الدبلوماسيّة معها. 

- المقاطعة الثقافيّة والفكريّة: إنّ مقاطعة جهة ما ثقافيًّا وأكاديميًّا يتجلّى فيما يتعلّق بالمؤسّسات الثقافيّة والحقل الثقافي ككل أي عن طريق إلغاء فعاليّة تُشارك فيها الدولة المستهدفة كالمهرجانات الدوليّة. وكذلك العمل على مقاطعة المنتجات الثقافيّة والفكريّة لها كالأفلام التي تُنتجها والكتب، كما تتمثّل بالامتناع عن زيارة شخصيّات فكريّة وفنيّة للدولة المقاطعة لإقامة عروض. بالإضافة إلى الانسحاب من أي نشاط أو بطولة أو مُسابقة أو أي أمر آخر تُشارك فيه الدول التي تُفرض عليها مقاطعة. 

- المقاطعة الاقتصاديّة: قد اعتبر جين شارب- Jene Sharp أنّ المقاطعة الاقتصاديّة تُعد من أساليب قطع التعاون الاقتصادي وهي تتضمّن أساليب متنوّعة كالأعمال التي يقوم بها المستهلكين مثل "مقاطعة المستهلكين وعدم استهلاك منتجات المقاطعة وسياسة التقشف، بالإضافة إلى الامتناع عن دفع الأجور ورفض الاستئجار ومقاطعة المستهلكين الوطنية والدولية. كما أنّ هناك الأعمال التي يقوم بها العمال والمنتجون كمقاطعة عمالية ومقاطعة المنتجين، والأعمال التي يقوم بها الوسطاء كمقاطعة المزودين والوكلاء. وكذلك هناك أعمال يقوم بها أصحاب الأملاك والمدراء وهي تتمثّل بمقاطعة التجار والامتناع عن تأجير أو بيع الممتلكات ومنع التوظيف وإغلاق المؤسسات، إلى جانب رفض المساعدة الصناعية وإضراب عام للتجار. علاوةً على ذلك هناك أعمال يقوم بها أصحاب المصادر المالية تتجلّى بسحب الودائع البنكية والامتناع عن دفع الرسوم والمستحقات والضرائب، كما الامتناع عن دفع الديون والفوائد وقطع المخصصات والقروض والامتناع عن دفع المداخيل الحكومية والامتناع عن قبول النقد الحكومي. فضلًا عن الأعمال التي تقوم بها الحكومات والتي تتمثّل بالحصار الاقتصادي المحلي ووضع تجار على القائمة السوداء وحظر البيع دوليًّا وحظر الشراء دوليًّا والحظر التجاري الدولي." وقد يكون الحصار الاقتصادي دولي؛ فعلى الرغم من أنّ مفهوم الحصار أوسع من المقاطعة، إلّا أن المقاطعة الاقتصاديّة تُعد وسيلة تُستخدم خلال فترة الحصار وذلك بُغية مضاعفة الضغط على الجهة التي تُفرض عليها الحصار كآليّة للعقوبات الاقتصاديّة. 

ومن الجدير بالذكر أنّه قد تُفرض هذه الأنواع جميعها في آن واحد، عندها تصبح هذه المقاطعة شاملة. فتكون المقاطعة الشاملة على كافّة المستويّات وذلك بهدف مضاعفة الضغط على الجهة التي تُفرض عليها المقاطعة.

 

نماذج عن المقاطعة

إنّ التاريخ مليء بالحالات التي لجأت فيها مختلف الأطراف إلى المقاطعة، لذا سنعمد إلى عرض بعض الحالات منها:

- مقاطعة المهاتما غاندي لبريطانيا

من النماذج الشهيرة عن المقاطعة هي مقاطعة المهاتما غاندي- Mahatma Gandhi ضد الاستعمار البريطاني للهند. إذ كان تمتاز الهند في إنتاج القطن حيث تنتج مزارعها كميّات كبيرة منه وتُشحن كلّها إلى بريطانيا فتُنسج في مصانعها وتُعيدها بمنتوجات كالملابس ممّا أدّى إلى سيطرتها على الأسواق الهنديّة ممّا أضعف الاقتصاد الهندي. فاعتبر غاندي أنّ بريطانيا تعمد إلى احتكار شراء القطن الطبيعي الهندي بثمن قليل جدًّا، ومن ثمّ تصنّعه وتُعود وتبيع الملابس والقطع القطنيّة بأسعار مرتفعة. فرأى أنّ ذلك يُعد احتكارًا، ودعا إلى مقاطعة الملابس القطنيّة الأجنبيّة بغية تحرير الاقتصاد الوطني ففي "عام 1920 قال غاندي جملته الشهيرة، والتي لا يزال صداها يتردد إلى الآن: 'احمل مغزلك واتبعني'." فعمد غاندي على تشجيع الهنود على صنع ملابسهم بأيديهم من خلال المغزل اليدوي وذلك لإيجادها بديل عن الملابس الأجنبية التي دعا إلى مقاطعتها. وقد كان يقول "'كلوا ممّا تنتجون وألبسوا ممّا تصنعون وقاطعوا بضائع العدو.'"كما أنّ المقاطعة لم تكن على الملابس والمنتوجات القطنيّة، فإنّها كانت على العديد من المنتجات الأخرى التي احتكرتها بريطانيا ومنها الملح. حيث عمدت بريطانيا إلى رفع ضريبة إنتاج الملح لصالح الإنكليز، فعندها عمد غاندي في العام 1930 إلى إطلاق عصيان مدني ودعا إلى مقاطعة الملح الإنكليزي واستخراج الملح بأنفسهم. إنّ هذه الأمور دفعت الاستعمار إلى اعتقال غاندي ولكنّه عندما أطلق سراحه عاد وشدّد على مقاطعة المنتجات البريطانيّة وعمدوا الهنود إلى إحراق المنسوجات الأجنبيّة المستوردة وتعاظم البحث عن بدائل للمنتجات الأجنبيّة ككل. وقد امتدّت وتوسّعت المقاطعة السلميّة لتشمل وسائل أخرى منها "الانقطاع عن العمل في مؤسسات المستعمر والامتناع عن استخدام أودعته الاقتصادية من البنوك والشركات ومقاطعة مناسباته واحتفالاته وهجر مدارسه ومعاهده ومراكزه." وعمد غاندي إلى الحث على مقاطعة القرارات التي تضطهد حقوق الشعب الهندي ممّا عرضه إلى السجن مرّات عدّة. ولكنّ الأنشطة التي قام بها وأهمّها المقاطعة أدّت إلى إنهاء الاستعمار البريطاني في العام 1947. 

- مقاطعة نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا

قبل التطرّق إلى هذه الحالة لا بدَّ من الإشارة إلى الأبارتايد. إذ "يعود أصل مصطلح الأبارتايد إلى لغة الأفريكانز (البيض) في دولة جنوب إفريقيا، وقد أستخدم في اللغة السياسية التشريعية في جنوب إفريقيا للإشارة إلى نظام الفصل بين البيض والسود والذي طبق منذ عام 1948 حتى 1990، والأبارتايد يعني بالعربية الفصل العنصري؛ غير أن مصطلح الأبارتايد أضحى اليوم مصطلحاً عاماً في كل اللغات". إذ أضحى يتجاور النظام الذي كان سائدًا في جنوب أفريقيا وبات يُستخدم في التحليل السياسي للتعبير عن النظام الحكم الذي يقوم على الفصل القسري بين الشعب الواحد على أساس تفاضلي بين السكان كاللون والعرق. لذا يتضح جليًّا أن خلال تلك الحقبة كان هذا النظام يقوم على الفصل بين الشعب والتمييز بينهم، إذ عمد على الفصل الجغرافي بين الأعراق وذلك لإبعاد الأفارقة السود عن المناطق التي يقطنها البيض الغنيّة بالموارد ودفعهم للعيش ضمن معازل تُعرف بالبانتوستانات. كما عمدوا إلى وضع نظام للعبور فلا يُسمح للسود التنقّل إلّا من خلال حمل تصريح مرور وذلك لمنعهم من التواجد في مناطق البيض. بالإضافة إلى ذلك كان الفصل في كافّة المجالات كالمطاعم والمدارس والمستشفيات والمقابر وكذلك منعهم من الوصول إلى المناصب السياسيّة والوظائف العليا، إذ فُصل بين البيض والسود حتّى في السياسة. فنظرًا للظروف التي كانت سائدة والانتهاكات تعاظمت المقاومة الشعبيّة لرفض هذا الواقع وعمدوا إلى مواجهتها بشتّى الوسائل ومن بينها المقاطعة. إذ كان هناك مقاطعة محليّة وامتدت لتصبح دوليّة، حيث اتخذت الأمم المتحدة عدّة قرارات للضغط على جنوب أفريقيا ومن بينها مقاطعتها اقتصاديًّا ومنع أي دولة عن بيعها الأسلحة ومنع تزويدها بالنفط. وكذلك فرضت على الدول تعليق التبادل التعليمي والثقافي والرياضي مع كل من يُمارس ضمنها سياسية فصل العنصري. وترافق ذلك مع إضرابات العمّال وسحب الاستثمارات الأجنبيّة في جنوب أفريقيا وإلغاء القروض من البنوك الأمريكيّة والأوروبيّة ممّا أدّى إلى خسائر عديدة عليها كتدهور عملتها. فبعد الضغط المحلي والدولي "تنحى الحزب الوطني عن الحكم وألغى نظام الأبارتايد سنة 1990، مما مهد الطريق للمؤتمر الوطني الإفريقي كي يصل إلى سدة الحكم بعد انتخابات نزيهة ليصبح نيلسون مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا عام 1994." فتكون المقاطعة حقّقت هدفها الأساسي بالقضاء على نظام الحكم العنصري.

- المقاطعة العربيّة للاحتلال الإسرائيلي

بعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة سيطرت بريطانيا على فلسطين، فأُعطيت بريطانيا مهمّة تأسيس دولة للشعب اليهودي في فلسطين متذرعين بأنّها أرض الميعاد وأنّها حق لهم. فعمدت بريطانيا إلى مغادرة المنطقة وعندها أعلن اليهود تأسيس دولتهم ممّا أُعتبِر انتهاكًا لحقوق الفلسطينيين وسلب لأراضيهم دون أي حق وعندها بدأت الحرب وأُجبِر مئات الآلاف من الفلسطينيين على ترك منازلهم وأطلِق عليها النكبة للدلالة على المآسي الإنسانيّة المرتبطة بتهجيرهم وتشريدهم. ومنذُ ذلك الحين استمرّت الحروب المتتالية والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني. وقد اعترضت الدول العربيّة على هذا الواقع من خلال عدّة وسائل وأهمّها المقاطعة التي اعتُبِرت سلاحًا أساسيًّا في إطار الصراع العربي الإسرائيلي. وقد ظهرت بشكلها الأوّلي من خلال جامعة الدول العربيّة وقراراتها  ومن أهمّها اتخاذ "مجلس الجامعة العربية في أيار/مايو 1951 قراراً شاملاً بإنشاء مكاتب للمقاطعة في كل دولة عربية تحت اشراف مكتب رئيسي للمقاطعة يكون مقره دمشق. وتتولى كل دولة عربية تعيين موظفي مكتبها، ويرتبط المكتب بالجهة الرسمية التي تعينه. وقد ربطت بعض الدول العربية المكتب الاقليمي للمقاطعة بوزارة الاقتصاد والبعض ألحقه بوزارة المالية، بينما ألحقه البعض الآخر بوزارة الدفاع." بالإضافة إلى ذلك أخذت الجامعة تؤكّد على المقاطعة عبر قرارت أخرى، إذ "اتفقت كل الدول العربية أعضاء الجامعة- طبقًا لقرار مجلس الجامعة الصادر في 16 ديسمبر سنة 1954- على مقاطعة السلع التي تنتجها المصانع اليهودية في فلسطين، وكان القصد من المقاطعة أولًا هو محاربة التهريب. بيد أن المقاطعة اتجهت منذ تاريخ قيام إسرائيل نحو محاربة الرفاهية الاقتصادية فمنعت بمقتضاها الأعمال والصفقات التجارية بين الدول العربية وإسرائيل." وذلك بغية تطويق العدو اقتصاديًّا ومحاصرته بهدف تحقيق أهداف سياسيّة، وتوسّعت المقاطعة لتشمل الأشكال والمجالات الأخرى. كما أنّ عمدت الدول العربيّة على إصدار قوانين مقاطعة للاحتلال الإسرائيلي، ومن النماذج على ذلك قانون المقاطعة اللبناني الذي صدر في العام 1955، حيث حظر تعامل أي شخص طبيعي أو معنوي مع الهيئات أو الأشخاص المقيمين في الأراضي المحتلة كإجراء الصفقات التجاريّة والعمليّات الماليّة. وكذلك نصّت المادة الثانية على أنّ "يحظر دخول البضائع والسلع والمنتجات الإسرائيلية بأنواعها كافة الى لبنان وتبادلها أو الاتجار بها، وكذلك السندات المالية وغيرها من القيم المنقولة الإسرائيليّة."بالإضافة إلى ذلك نشطت الحركات المدنيّة في المنطقة التي تدعو إلى المقاطعة في ظل التأكيد على ضرورة إنهاء الاحتلال وإيقاف الإبادات الجماعيّة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة. ومن النماذج على هذه الحركات هي حركة مقاطعة إسرائيل BDS التي تُشير إلى أنّ: "من فشل الحكومات و'المجتمع الدولي' وأصحاب القرار في وقف الاضطهاد الإسرائيلي المركّب ضد الشعب الفلسطيني، أصدرت أغلبية المجتمع المدني الفلسطيني نداءً تاريخيًّا في عام 2005 موجهًا لأحرار وشعوب العالم، يطالبهم بدعم مقاطعة إسرائيل كشكل رئيسي من أشكال المقاومة الشعبيّة السلميّة الفلسطينيّة، وكأهم شكل للتضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه." على المقلب الآخر إنّ المقاطعة العربيّة خُرِقت عبر اتفاقات السلام التي عُقدت بين البعض من الدول العربيّة كمصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان والمغرب ممّا أضعف قرارات المقاطعة التي اتخذتها جامعة الدول العربيّة آنفًا. إلّا أنّ الدعوات للمقاطعة تتزايد بشكل لافت بالأخص بعد أحداث غزة الأخيرة وتزايد الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني واستهداف المدنيين. ففي إطار توّسع انتشار التواصل الاجتماعي وارتفاع قدرة الوصول إلى الرأي العام الغربي، ترتفع هذه الدعوات ويتزايد تأثير المقاطعة، وتُسلّط المقاطعة على المنتجات والبضائع والشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي حيث تجدها الشعوب فرصة للتعبير عن مواقفها. 

فلتنجح المقاطعة في أي حالة لا بدّ من أن تتسم بالاستمراريّة إلى حين تحقيق أهدافها وكذلك تضافر الجهود وتنظيمها لكي لا تُخرق. كما أنّها لا بدَّ أن تكتسب التأييد والدعم العام لجذب إليها العدد الأكبر من الملتزمين بها. وبالتالي إنّها قد تكون سلاح فعّال لتسجيل مواقف من الممكن أن تؤثّر في مسار الأحداث. فما هي المعوّقات التي تحول دون تحقيق المقاطعة لأهدافها؟

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

غراهام ايفانز وجيفري نيونهام، قاموس بنغوين للعلاقات الدولية، مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، الإمارات العربية المتحدة، 2004.

وضاح زيتون، المعجم السياسي، دار أسامة ودار المشرق الثقافي، الطبعة الأولى، الأردن، 2006.

عرابي عبد الحي عرابي، المقاطعة الاقتصاديّة سلاح الشعوب، مؤسسة السبيل، الطبعة الأولى، مكان النشر غير محدّد، 2021.

محمد علي لطيفي، مقال بعنوان: "قبيل الانتخابات التونسية.. حملة لمواجهة غلاء الأسعار ما دوافعها؟"، منشور عبر موقع الجزيرة، بتاريخ 4-10-2019، تاريخ آخر دخول: 01-01-2024 الساعة: 11:30.

عبد الحافظ الصاوي، سلاح المقاطعة الاقتصاديّة.. الجدوى والآفاق، التقرير الاستراتيجي الثامن.

جين شارب، من الدكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة إطار تصوري للتحرّر، ترجمة خالد دار عمر، مؤسسة ألبرت أينشتاين، الطبعة الثانية، الولايات المتحدة الأمريكيّة، 2003.

محمد يوسفي، مقاطعة السلع الأوروبية في ضوء القانون التجاري الدولي والتشريع الإسلامي دراسة حالة الرسوم المسيئة للرسول (ص)، مجلة دراسات في التنمية والمجتمع، المجلد 3، العدد 3، 2016.

 ريم أحمد المغربي، تجارب تاريخيّة ناجحة في استخدام المقاطعة كنهج كفاحي فاعل، أكاديميّة دراسات اللاجئين.

 إسلام شحدة العالول، نظام الأبارتايد في دول الاحتلال راهنًا وجنوب إفريقيا سابقًا وسبل مناهضتها، دار المشكاة، الأردن، 2021.

 محمد عبدالحميد أبو زيد، قوانين ومبادئ: المقاطعة العربيّة لإسرائيل، مطابع جامعة الملك سعود، السعوديّة، 1993.

عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، الجزء السادس،  المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، لبنان، تاريخ النشر غير محدد.

المادة الثانيّة من القانون اللبناني المتعلّق بمقاطعة إسرائيل الصادر في 23/06/1995، منشور في الجريدة الرسميّة بتاريخ 29/06/1955، الصفحة 1001- 1003.

موقع BDS، ما هي حركة مقاطعة إسرائيل  "BDS"؟، الموقع الرسمي للحركة. 

Anas Mohd Yunus, Wan Mohd Yusof Wan Chik, Najihah Abd Wahid and others, The Concept of Boycott: A General Introduction, International Journal of Academic Research in Business & Social Science, Vol 10, No.9,, ISSN: 2222-6990, 21 September 2020.

Cambridge Dictionary, Boycott.

Harry W. laidler, Boycotts and the Labor Struggle, John Lane Company, USA, 1914.

Leo Wolman, A Dissertation titled: The Boycott in American Trade Union, submitted to require degree of Doctor of Philosophy, Hopkins University in Conformity, Baltimore, 1914.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia